لم يجد المسيحيون ولا المسلمون أفضل من مريم لتجمع بينهم. هي المقدّسة التي تستحضر سيرتها الديانتان، وخصوصاً في وقائع يوم البشارة الذي أراده لبنان عيداً مشتركاً.
منذ ٤٤ عاماً اطّل رمز إسلامي هو الإمام السيد موسى الصدر في كنيسة الآباء الكبوشيين في بيروت، ليتحدّث في محاضرة في أيام الصوم عند المسيحين، عن معاني الجمع. إستند الإمام الصدر على الأهداف الموحّدة عند الأديان السماوية، التي كانت واحدة، في خدمة هدف واحد هو الإنسان. فثبّتت تلك الإطلالة بالفعل معنى الجمع على أساس خدمة الإنسان.
لم تتوقف محاولات تقريب المسافات بين المسيحيين والمسلمين، مقابل موجات التطرف التي أنتجت خطاباً متشدّداً وقتلاً جماعياً وتهجيراً، دفع ثمنه المسيحيون والمسلمون في سوريا والعراق ومصر ونيجيريا ودول أوروبية، وقد يكون ما حصل في نيوزلندا هو نتيجة طبيعية لخطاب التطرف.
لذلك، فإنّ العودة إلى محطة الجمع الأولى أيّ يوم البشارة، هو أساس المسيرة التي تحتاج إلى تنبيه الأجيال إلى وجودها، والتذكير بأهميتها دينياً ودنيوياً، على أن تتراكم محطّات الجمع، في نشاطات شعبية، تُترجم النصوص، وتنقل الحوار والتواصل من نخبوييه إلى كل الناس، على مستويات المدارس والجامعات، والأحياء، والتواصل الإجتماعي والمؤسسات. فلم يثبت الحوار الذي يبقى في صالونات النخبة أيّ فعالية، لأن نتائجه تبقى محصورة بين قلّة لا حول لهم ولا قوّة.
ومن هنا تأتي المبادرة المهمة التي يقوم بها رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع المطران عصام درويش في تنشيط الحوار، وفرضه على كل المستويات، لترجمة وثيقة "الإخوّة الإنسانية" التي وقعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب في الإمارات العربية المتحدة. بالطبع، لم تكن الوثيقة هي الأولى من نوعها، بل تأتي إستكمالاً لطريق طويل إعتمدته الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان لتعميمه في كل إتجاهات الأرض، بالشراكة مع رجال دين ومراجع إسلامية برزت دعواتهم وخطاباتهم والفتاوى الدينية في العراق وإيران التي تحث على الجمع لا التفرقة. ما يعني ان الجناحين المسلمين بمذهبي الشيعة والسنّة، يحاربان الجهل والتطرف وينبذان التكفير. وتلك دلالات مهمة في مسيرة دينية طويلة، يجب ان تتصدّى بالفكر والفعل، لكل محاولات التفرقة على اساس المذاهب والطوائف. ان وجود ما يجمع بين المدارس الدينية أكثر مما يفرّق. فهل تعلم الأجيال عناوينها وتفاصيلها؟ ولماذا يُترك المتطرفون يستبيحون الشارع والتواصل الإجتماعي، في ظل تراجع دور المستنيرين؟.
يتصدّر البقاع الآن في خطوات الجمع وإبراز التلاقي، وترجمة الحوار شعبياً، برعاية كنيسة زحلة الكاثوليكية، من خلال لجنة اسّسها المطران درويش، أُطلق عليها إسم "لجنة الإخوة الإنسانية"، تنطلق اليوم من نشاط في عيد البشارة، بندوة جامعة في الكلية الشرقية. إن أهمية اللجنة تكمن من خلال قدراتها على تعميم ثقافة التلاقي، وتبسيط مفهوم الجمع، وعدم إبقاء التواصل الفكري فقط بين النخبويين. بل إن ثقافة الجمع تحتاج الى عظات المطارنة والآباء في الكنائس، وخطب الجمعة في المساجد، والاّ سترث الأجيال ما يزرعه الحاقدون المتطرفون، وستحصد نتائج مشابهة لما حصل في نيوزلندا، وقبلها في دولنا التي إستباح التشدد ساحاتها.
اذا كنا في لبنان عاجزين عن الغاء الطائفية السياسية حتى الآن، وغير قادرين على فرض الدولة المدنية، لكننا قادرون على منح التواصل الإيجابي فرصته، وتعليم الأجيال أن التدّين يبدأ بالإعتراف بالآخر، وأن الأوطان تُبنى على الإنتاجية الإنسانية. أول الحوار المقدّس بدأ في يوم البشارة، ولا يحب ان تنتهي مفاعيل ذاك الحوار المقدّس بين الناس.