خطاب الدقائق الثماني الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في مقر وزارة الخارجية اللبنانية، ليس فقط هو التوصيف الأدق والأوضح لميليشيا «حزب الله»؛ بل لعله التعبير الأدق عن حقيقة تصور الغالبية اللبنانية للحزب، ودوره في حياتهم ومستقبلهم.
لناحية الدقة، فإن جملةً مفتاحاً تختصر كل النقاش حول مشكلة «حزب الله» قالها بومبيو، حين أقر بأن الحزب جزء من البرلمان وبقية مؤسسات الدولة؛ لكنه أيضاً وعبر «جناح إرهابي»، يتحدى الدولة والشعب اللبناني.
لا يستقيم بعض هذه الجملة دون بقيتها. فـ«حزب الله» هو فعلاً جزء من الدولة اللبنانية، بمعنى صفته التمثيلية داخل مؤسساتها. وهو في الوقت نفسه، العامل الرئيسي، ويكاد يكون الوحيد، لتقويض الدولة بتعريفاتها البديهية، وأولها احتكار أدوات العنف، وقرارات السلم والحرب، وحصرية الهيمنة على حدود الدولة، وكلها عناوين تخضع للاستنزاف اليومي من قبل سياساته.
أما لناحية أن خطاب بومبيو هو تعبير دقيق عن تصورات اللبنانيين، فجاء الدليل عليه من خلال ما قاله وزير الخارجية الأميركي في إطلالة إعلامية مع إحدى القنوات المحلية. يقول إنه لمس من خلال لقاءاته أن اللبنانيين «مستعدون للوقوف بوجه (حزب الله)، ويفهمون أن سيادتهم واستقلالهم يعتمدان على الجهود التي يبذلونها».
وجواباً عن سؤال آخر حول وحدة الموقف اللبناني الذي سمعه ممن التقاهم، يكشف بومبيو أنه شعر بأن ثمة موقفاً لبنانياً موحداً بشأن «حزب الله»، وأنهم «جميعاً يفهمون أهمية الإبقاء على السلطة السياسية بعيداً عن أيدي جمهورية إيران الإسلامية».
ليس غريباً أن يخرج بومبيو بمثل هذه الانطباعات، من اجتماعات شملت بين من شملت «أصدقاء وحلفاء (حزب الله)» كرئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الجمهورية ميشال عون، ووزير الخارجية جبران باسيل. فمن يعود إلى تسريبات «ويكيليكس» حول موقف القوى السياسية اللبنانية، سيعثر على تصريحات صادمة بشأن تصورات اللبنانيين عن «حزب الله» ودوره، وما يترتب على سياساته، والتصورات حول دور «حزب الله» في الاغتيالات الداخلية، والتفجيرات التي شهدها لبنان بين عامي 2005 و2013، كما حول رهانات البعض على الخلاص من «حزب الله» حتى ولو عن طريق هزيمته العسكرية في خلال «حرب تموز». مثل هذه التصريحات، لم تصدر عن خصوم «حزب الله»؛ بل عن من هم ضمن البيت السياسي الواحد، وما تصريحات بومبيو اليوم وما نقله عن المسؤولين اللبنانيين بلغة دبلوماسية حذرة وهلامية، إلا رجع صدى لما قالوه قبلاً، وما تصوروا يوماً أن يجد طريقه إلى العلن.
طبعاً لا أشارك السيد بومبيو تفاؤله أن اللبنانيين فعلاً مستعدون للقيام بما يلزم لمواجهة «حزب الله» الآن، رغم أن الإنصاف يقتضي القول إنهم ومنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وهم يواجهون بمستويات مختلفة، صحيح أنها في أدناها اليوم؛ لكنها لم تكن دوماً كذلك. والإنصاف يقتضي أيضاً عدم القفز فوق أثر سنوات عهد الرئيس باراك أوباما العجاف، والتي بسبب الهوس بالحوار مع إيران، عطلت كثيراً من إمكانات هذه المواجهة، ولعل أبرزها الموقف المخزي من ربيع طهران، والحركة الخضراء عام 2009.
لا شك في أن واشنطن اليوم مختلفة عن واشنطن أوباما، فيما خص السؤال الإيراني برمته، وليس «حزب الله» إلا جزءاً من هذا السؤال الأوسع والأهم. ولا شك أن الإدارة الأميركية ستزداد ثقة بعد طي ملف تحقيق مولر، وتبرئة الرئيس دونالد ترمب من تهمة التواطؤ مع روسيا في الانتخابات الأميركية الماضية. ولا غبار على المثابرة الأميركية في مواجهة إيران، وهو ما دل عليه فرض عقوبات، بالتزامن مع زيارة بومبيو إلى بيروت، على 31 كياناً إيرانياً مرتبطاً بمنظمة البحث والتطوير العسكري الإيرانية، وهي إحدى الأذرع المسؤولة عن تطوير برنامج إيران النووي.
لكن من غير الواضح كيف ستنجح الإدارة الأميركية في الاستمرار بمفاقمة الضغط على «حزب الله» في لبنان، من دون أن يؤدي ذلك إلى آثار جانبية مدمرة لهذا البلد الصغير. وبصراحة لا أعرف إن كان ممكناً فعل ذلك أصلاً.
الأزمة غير متأتية فقط عن حجم التداخل بين «حزب الله» والدولة اللبنانية؛ بل عن قدرة «حزب الله» على لعب لعبة ابتزاز جهنمية، بحيث إن التزام لبنان بالعقوبات سيقابله الحزب بعرقلة الحلول الاقتصادية الضرورية لمنع انهيار البلد، وإلقاء اللوم على من يعتبرهم «أدوات الغرب وعملاءه»، وعدم التزام لبنان الجاد بالعقوبات سيعني تحويل الدولة برمتها إلى دولة «حزب الله»، وتعريضها هي مع الحزب للعقوبات المؤدية إلى الانهيار.
لقد بات انتشار سرطان «حزب الله» في جسد المجتمع والدولة في لبنان عميقاً جداً، إلى حد ما عاد معه ممكناً الجزم بأن استئصال المرض لن يؤدي إلى موت المريض. لقد ساهم ترك لبنان طويلاً في مفاقمة المشكلة، إن كان من حلفائه العرب أو من السياسات الدولية، حتى بات هذا الوطن الصغير مشكلة لنفسه وللجميع خارجه.
البلد المنهك، تختصر سلوكه عبارة لوليد جنبلاط، أنه ينتظر مرور جثة عدوه في النهر. الجثة المنتظرة هي جثة الجمهورية الإسلامية. هنا بيت القصيد، هنا أرض المعركة.