غرقنا جميعاً في سرعة المتابعة لمجزرة نيوزيلندا. وفي السرعة تغيب عن بال الناس أشياء كثيرة. ومع الوقت نبدأ في قراءة العبَر والنتائج. لقد رحب العالم بقرار جاسيندا أرديرن حجب صورة السفاح على أنه عقاب عاطفي نبيل. وهذا ما أرادته هي بكل صدق وكبرياء.
لكننا نرى اليوم أنها أحدثت سابقة عالمية بالغة الأهمية في عصر التوحش التكنولوجي. إنها لم تحرم السفاح وحده من الدعاية والظهور، بل جميع الإرهابيين. فالإرهاب يعتمد، بالدرجة الأولى، على نشر الرعب والخوف، وقبل أن يهيئ أي شيء، يعدّ الكاميرا والمصورين ومهندسي الإضاءة. وعندما أطلّ البغدادي للمرة الأولى معلناً «دولته»، جعل ذلك في أفضل إخراج سينمائي ممكن. وتناقلت القنوات التغطية كما لو أنها جزء من إعلام «داعش». لكنها ستفاجأ بعد قليل بأن المخرج لا يتوقف عند نقطة محددة من التوحش: ها هو يصور إحراق الطيار الأردني حياً في قفص حديدي، والداعشي البريطاني العملاق يبتسم للكاميرا وهو يقطع رأس ضحيته.
بعد أشرطة «القاعدة» على «الجزيرة»، تعلم «داعش» من الإعلام. وازدهرت صناعة القتل، مرفقة دوماً ببيان بليغ. ولم يحمل السفاح الأسترالي بياناً؛ بل دراسة كاملة. إلا إن كل ما أعدّه للشاشات، أحبطته جاسيندا أرديرن. وبدل أن يلاحق الإعلام كالقطيع، أخبار الجريمة، رأى نفسه هذه المرة يبحث عن «الإثارة» في الخير والحق والخلق. ورأينا البطل الأول سيدة في ثياب الحداد، ومدينة مسيحية تعتمر الحجاب تضامناً مع ضحايا المسجدين. ورأينا الفرقة الوطنية ترقص استنكاراً لما حدث على أرض البلاد.
لقد خطفت جاسيندا أرديرن من الإرهابي الأضواء التي خطط لها بكل دم بارد ورقيع. هذه عبرة شديدة الأهمية في الحرب على الإرهاب. امنعوا عنه الدعاية. إنه عدو للإنسانية وليس جزءاً منها. حاولوا قدر الإمكان أن تطفئوا أضواءه أينما كانت: شاحنة ساحقة في برلين، أو قتل جماعي في النرويج، أو متفجرة في جزيرة بالي.
هناك أسلحة كثيرة يمكن سحبها من الآيديولوجيا الإرهابية؛ أولها المال، وثانيها الدعاية. الأشرطة التي فازت «الجزيرة» حصرياً ببثها، كانت تذاع على أنها أشرطة أبطال ومقدّسين. وقد تساوت في برامجها المباشرة أخبار الشعوب والأمم، وأخبار مفجريهم. وصار المقياس المهني في العالم العربي أن تكون نشرات الأخبار بشارات مفتوحة بالموت والدمار.
لا أخبار للحياة في العالم العربي. بعد نيوزيلندا، عرف العالم ما معنى ودور وتأثير الدعاية. الخطر ليس فقط في الإعلام المزيّف، أو الكاذب؛ بل خصوصاً في الإعلام المحرّض.