أحياناً ينعقد خيط من الود بين غرباء. كان العامل في الفندق لطيفاً. خالني سائحاً يبحث عن منظر خلاب. قال إن ثمة فرصة لا يجوز لزائر إضاعتها. نصحني أن أصعد إلى سطح الفندق لأراقب من هناك غروب الشمس وراء الجبل الصغير الساهر قبالة الميناء. ولأنني جئت في مناسبة شخصية قلت أنصاع لنصيحته. واكتشفت كم كان محقاً. راحت الشمس تنزلق على مهل ثم استحالت كرة خجولة من النار وتوارت. وشعرت لبعض الوقت بلذة أن تكون سائحاً. أن تكتشف وتعاين وتسرق أجمل المشاهد وتخفيها في هاتفك. إنها متعة التواصل مع الجبال والأشجار والمدن التي تغسل أقدامها في المياه الشاسعة. ولازمني شعور عميق أن الصحافي سائح سيئ النية. كلما زار بلداً يروح يسأل عن آلامها بدلاً من التمتع بمباهجها.
تطوع العامل ورافقني في رحلة التحديق في مشهد الغروب. سألني أين أعيش؟ فأجبت في لندن، فرد بابتسامة واسعة كأنني أتحدث عن أرض الأحلام. أبديت إعجابي بجمال البلاد وفاجأني بالقول إن البلاد تبدو جميلة دائماً للغرباء. وكان لا بدَّ من الخوض في الحديث. قال إن الزائرين يدخلون جنوب أفريقيا وفي ذهنهم صورة مشرقة هي صورة نيلسون مانديلا. أشاد بالقائد التاريخي الذي أخرج ملايين المواطنين من عصر مديد من الظلم والظلام على قاعدة التسامح والمصالحة كابحاً الرغبة العميقة في الثأر التي كان يمكن أن تغرق البلاد في انهيار كامل وبحر من الدماء.
لاحظ أن القائد الاستثنائي يأتي ويذهب ويترك الخريطة في عهدة رجال عاديين. رجال يحركهم جوع عميق إلى السلطة وضعف رهيب أمام مغرياتها ومفاسدها. قلت إن البلد حقق تقدماً لافتاً؛ فهو عضو في مجموعة العشرين ولديه بنية تحتية متطورة واقتصاده هو الثاني في القارة السمراء بعد نيجيريا. لم ينكر أن ذلك قائم فعلاً، لكنه لاحظ أن نسبة البطالة تكاد تصل إلى ثلاثين في المائة، وهذا مخيف فعلاً. لفتني إلى أن المشكلة الأكثر خطورة هي الفروقات الهائلة بين المواطنين؛ أي بين الذين ازدادوا ثراء والذين ازدادوا فقراً، ويتكدسون في تجمعات تحتاج إلى كل شيء، ما يرفع نسبة الجريمة والسرقات وانتهاك القانون. وأشار إلى شح في المياه بسبب نقص أمطار في السنوات الأخيرة يضاف إلى انقطاع يومي للكهرباء حتى في مدينة مثل كيب تاون. ولم يكن بوسعي إسداء أي نصيحة، خصوصاً أنني من بلد اعتبرت فيه مشكلة الكهرباء منذ عقود منجماً ذهبياً للفساد والفاسدين.
وشعرت أن المشكلة في جنوب أفريقيا تشبه المشكلة في أنحاء كثيرة، وهي مشكلة بناء الدولة العصرية التي تستند إلى مؤسسات طبيعية راسخة تتسع للمشاركة والتصحيح والتغيير. دولة تستطيع مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل. دولة تعمل باقتدار لتوفير فرص تعليم عصري لأبنائها يزودهم بمفاتيح الانتماء إلى هذا العالم الذي يعيش على وقع ثورات شبه يومية في العلوم والتكنولوجيا. دولة توفر فرص العمل وتنقذ أبناءها من خطر ارتكاب حلم القفز إلى زوارق الموت لإلقاء أنفسهم في بلاد غريبة. شعرت بامتنان عميق لهذا العامل اللطيف وسألته ماذا أستطيع أن أفعل له فكان جوابه: «ليتك تأخذني معك إلى لندن. المستقبل غامض هنا. أشعر أن العيش هناك أقل صعوبة وخطورة».
أوجعني كلام الرجل خصوصاً أن بلاده تنام على ثروات منجمية كبرى. وفكرت ما عساه يقول من ينتمي إلى بلاد تبخل أرضها بالمعادن وسماؤها بالأمطار. وتذكرت موقفاً مماثلاً في الخرطوم قبل سنوات. قبيل مغادرتي سألني عامل الفندق إن كان باستطاعتي أن أؤدي له خدمة لا ينساها. وحين استفسرت أجاب أنه يحلم بالهروب من بلاده، وأنه سمع أن بريطانيا رحبة وتتسع للوافدين. إنها بلداننا وهي في النهاية سجوننا نتحين فرصة الفرار منها كي لا نسلم أطفالنا للفاشلين والفاسدين.
الصحافي سائح سيئ. لم تدم متعة مشهد الغروب طويلاً خصوصاً بعدما باح عامل الفندق بطموحاته. كان لا بدَّ من العودة إلى الهاتف. إلى لعنة إقليم الشرق الأوسط والأخبار الوافدة منه.
خبر مفرح أن تعلن هزيمة «داعش» وأن يشطب من الخريطة التي تحصَّنَ فيها. لكن السؤال الأهم هو: هل تعلمنا من التجربة المريرة والطويلة؟ أم أن السياسات التي أنجبت هذا التنظيم الرهيب ستتسبب في إنتاج وريث له أشد خطورة وهولاً؟ ثم إنه لا يمكن إنكار أن «داعش» ترك بصماته على المسرح الذي استباحه قبل سنوات وتسبب في تكريس ظاهرة الميليشيات و«الجيوش الصغيرة الجوالة» التي اغتنمت فرصة محاربة «داعش» للتحول جيوشاً موازية دائمة.
لا يبتعد الشرق الأوسط عنك مهما ابتعدت عنه. الولادة في ذلك الجزء من العالم تمهرك بقلق لا ينام حتى لو حاولت ارتداء روح السائح والتمتع بمشهد الغروب في بلاد مانديلا. خبر كبير آخر. إعلان الرئيس دونالد ترمب أن بلاده قررت الاعتراف بـ«السيادة الإسرائيلية» على الجولان.
والخبر يعني بالتأكيد تغييراً كبيراً في السياسة الأميركية حيال هذا الملف الذي حاولت واشنطن على مدار عقود لعب دور الوسيط فيه. لهذا القرار أثمانه وانعكاساته بالنسبة إلى النزاع المتجذر في المنطقة، وله تبعاته بالنسبة إلى القفز فوق قرارات الشرعية الدولية.
لا يبتعد الشرق الأوسط عنك مهما ابتعدت عنه. ثم إن الصحافي سائح سيئ أصلاً فهو صياد أوجاع لا صياد مشاهد خلابة، ولا يكفي الغروب الرائع لإخراجه من سيطرة الأخبار المؤلمة.