لو سَلّمنا جَدلًا وبَصَمنا على كلِّ ما قاله مايك بومبيو بشأنِ حزبِ الله أثناءَ زيارتِه بيروت، ما هي الآليّةُ التي تَقترِحُها الإدارةُ الأميركيّةُ على لبنان لكي نَستأصلَ، اليومَ قبلَ الغد، هذا الحزبَ؟ حتى كتابةِ هذه الأسطُر لم يكن الأسطولُ السادس قد رَسا قُبالةَ شاطئِ الأوزاعي.
الاكتفاءُ بالتوصيفِ فنٌّ أدبيٌّ لا يَتناسَبُ مع وزيرِ أقوى دولةٍ في العالم ما لم يُرفَقْ بخُطّةٍ عمليّةٍ قابلةٍ التنفيذ. لكنَّ الثابتَ أمران: الأوّلُ: دَخلَ الموقِفُ الأميركيُّ من حزبِ الله مَدارًا تصعيديًّا مُرتبطًا بحسمِ الصراعِ (سياسيًّا أو عسكريًّا) بين أميركا وإسرائيل من جِهةٍ، وإيران من جِهةٍ أخرى.
والثاني: تَأمَلُ أميركا أنْ يَتولّى لبنانُ، حكومةً وشعبًا ومؤسّساتٍ، مَهمّةَ مواجهةِ حزبِ الله، على أن تساندَه بحُزمةِ عقوباتٍ نوعيّةٍ جديدةٍ تَشمُل شخصيّاتٍ سياسيّةً واقتصاديّةً لبنانيّة.
الأمرُ الأوّلُ ذكَّرني بالصراعِ الإسرائيليِّ/الفِلسطينيِّ القديم في جَنوبِ لبنان الذي أدّى إلى حربِ سنةِ 1982.
والأمرُ الثاني ذكّرني بـــ«النداءِ العسكريِّ» الذي أَطلقَه السفيرُ الأميركيُّ في بيروت جون مكارثي في 19 تشرين الثاني 1989 إلى قوى لبنانيّةٍ لتُسقِطَ العمادَ عون، فكانت «حربُ الإلغاء» التي لا نزال نَدفع ثمنَها مسيحيًّا ولبنانيًّا حتّى الآن.
مسلسلُ التصعيدِ الأميركيِّ ضِدَّ حزب الله بَدأ مع بيانِ وكيلِ وزارةِ الخارجيّةِ الأميركيّةِ للشؤونِ السياسيّةِ ديفيد هيل (12 كانون الثاني 2019)، أُعقِبَ بتصريحِ مساعدِ وزيرِ الخزانةِ لمكافحةِ تمويلِ الإرهابِ مارشال بيلّينغسلي (22 كانون الثاني 2019)، استُتْبِع ببيانِ السفيرةِ الأميركيّةِ في بيروت إليزابيت ريتشارد من بيت الوسط (20 شباط 2019)، أُسنِدَ ببيانِ مساعدِ وزيرِ الخارجيّةِ الأميركيّةِ لشؤونِ الشرقِ الأدنى دايفيد ساترفيلد (05 أذار 2019)، استُكمِلَ ببيانِ الوزيرِ بومبيو من الخارجيّةِ اللبنانيّةِ (22 آذار 2019)، وسيُتوَّجُ بتصريحٍ مماثِلٍ للرئيس دونالد ترامب قريبًا جدًا.
خطورةُ هذه المواقِف أنَّ مجموعَها يُشكّلُ بدايةَ سياسةٍ أميركيّةٍ متماسِكَةٍ تجاه موضوعٍ مُعيّن. فبعد أن رَكّزَت واشنطن على «داعش»، فشَنّت عليه حربًا «قاضيةً» في العراق وسوريا، تَتفرَّغُ الآن لتحجيمِ حزبِ الله في لبنان وسوريا (كأنَّ لا فرقَ بين التنظيمَين).
لبنانُ قادرٌ على نزعِ فتيلِ الانفجارِ وإجهاضِ المسارِ الأميركيِّ بوضعِ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ تحوِّلُ سلاحَ حزبِ الله إلى كنفِ الدولةِ اللبنانية فعليًّا. لكن، هل حزبُ الله في واردِ فَكِّ ارتباطِه السياسيِّ والعسكريِّ بالمشروعِ الإيرانيِّ والانخراطِ في مشروعِ الدولةِ اللبنانيّة؟ ليس هذا هو الاتجاه حاليًّا.
تجاهَ مطالبِ أميركا العاتيةِ ومواقفِ حزبِ الله الممانِعةِ، أقترحُ أن يُعلِّقَ رئيسُ الجمهوريّةِ العماد ميشال عون رئاستَه ويُسلِّمَها إلى الرئيسِ الأميركيِّ دونالد ترامب مع صلاحيّاتٍ استثنائيّةٍ لنرى كيف سيَحِلُّ المشاكلَ التي تَشكو منها الولاياتُ المتّحدةُ الأميركيّةُ، وفي طليعتِها وجودُ حزبِ الله ودورُه.
صحيحٌ أنَّ حزبَ الله ـــ بوضعِه الحاليّ ـــ مشكلةٌ لبنانيّةٌ لكنَّ معالجتَها تَفوقُ طاقةَ لبنان، بل طاقةَ إسرائيل ربّما استنادًا إلى حربِ 2006 الملتبِسةِ الأهداف.
هل يُعطي ترامب الأمرَ للجيشِ اللبنانيِّ بنزعِ سلاحِ حزبِ الله بالقوّة؟ هل يَقطَعُ العلاقاتِ مع إيران ويُقفِلُ السفارةَ الإيرانيّةَ في لبنان؟ هل يُغلِقُ الحدودَ مع سوريا؟ هل يَقتحِمُ المخيّماتِ الفلسطينيّةَ ويَنقُلُ اللاجئين إلى فِلسطين؟ هل يُعلنُ بضميرٍ مرتاحٍ أنَّ لبنانَ قادرٌ على تحمّلِ عبءِ النازحين السوريّين؟
هل يَخنُقُ المصارفَ اللبنانيّةَ لتَتشدَّدَ في تطبيقِ العقوبات فيتعطّلُ دورُها المصرِفيُّ الرياديُّ في لبنانَ والشرقِ الأوسط؟ هل يُقسِّمُ لبنانَ أو يُطبّقُ الفيديراليّةَ لأن وِحدتَه صارت متهاوية؟ وهل يُدرك الرئيسُ «اللبنانيّ» ترامب أنَّ كلَّ قرارٍ من هذه القراراتِ الافتراضيّةِ هو مشروعُ حربٍ أهليةٍ حتميّةٍ؟ وبالتالي، كيف يُوفّق بين دعمِ استقرارِ لبنان وبين تعريضِه لحربٍ أهليّة؟
يُفترض بواشنطن التي رافقَت أحداثَ لبنانَ وهَندَسَت بعضَها أن تُدرك أكثرَ من سِواها أنَّ كلَّ مشاكل لبنان السياسيّةِ والعسكريّةِ ذاتُ طابَعٍ دوليّ.
وهذا الوصْفُ لا يَنطبِقُ على سلاحِ حزبِ الله فقط، إنما على غالِبيّةِ الحالةِ اللبنانيّة بمفهومِها التاريخي. وجودُ لبنانَ بحدِّ ذاتِه حالةٌ دولية: إنشاءُ دولةِ لبنانَ كان قرارًا دوليًّا. استقلالُه واحتلالُه وتحريرُه كانت قراراتٍ دوليّةً. الحروبُ التي اندَلعت على أرضِه واتفاقاتُ وقفِ النارِ والتسوياتُ وتعريبُ الأمنِ فيه كانت قراراتٍ دوليّة.
تأليفُ الحكوماتِ وانتخاباتُ رؤساءِ الجُمهوريّةِ كانت قراراتٍ دوليّةً. المِظلّةُ الأمنيّةُ التي ترعاها مجموعةُ قراراتٍ أمميّةٍ كانت قراراتٍ دوليّة.
منذ سنةِ 1975 تفاقمَت الحالةُ الدوليّةُ في لبنان بحكمِ الانقسامِ اللبنانيِّ البُنيويّ ودخولِ الفِلسطينيّين والسوريّين والإسرائيليّين على الساحةِ اللبنانيّة. ولم يَبرز وزنٌ للقرارِ اللبناني إلا حين حَصل شِبهُ توافقٍ وطنيٍّ في ثلاثةِ مُنعطفات: 23 آب 1982 بُعيدَ انتخابِ بشير الجميل رئيسًا للجمهوريّة، 25 أيار 2000 لدى انسحابِ إسرائيل من جنوبِ لبنان، و 14 آذار 2005 ما أدّى إلى انسحابِ الجيشِ السوريِّ في 26 نيسان 2005.
واللافتُ أنَّ هذه التوافقاتِ الثلاثةَ حَصلت بفضلِ مقاومتَين وانتفاضةٍ وبوجهِ ثلاثِ قوى غريبةٍ محتلَّة. لكنَّ الدولةَ لم تَعرِف الإفادةَ من أيِّ مقاومةٍ شعبيةٍ فَهَوت التوافقاتُ اللبنانيّةُ تِباعًا وعاد القرارُ الدوليُّ يَتحكّم بمصيرِنا.
في ظلِّ الانقسامِ اللبنانيِّ وطبيعةِ موازينِ القِوى الحاليّةِ، سيكتَشف «الرئيسُ اللبنانيُّ» ترامب سريعًا أنَّه يَصعُب على الدولةِ اللبنانيّةِ المركزيّةِ تحقيقُ مطالب ترامب «الرئيسِ الأميركي» قبلَ حصولِ تغييرٍ في معادلاتِ المِنطقةِ أو من دون تَدخّلٍ دوليٍّ يُغيُّر موازينَ القِوى في لبنان.
ولذلك تبدو الدولةُ اللبنانيّةُ ضعيفةً ومُضطرّةً، حِفاظًا على حدٍّ معيّنٍ من الاستقرارِ، إلى التَكيّفِ مع الوقائعِ على حسابِ سيادةِ لبنان واستقلالِه ووِحدتِه وسلطتِه وشرعيّتِه. لكن التكيّفَ مع الواقعِ لا يَعني الاعترافَ به والاستسلامَ له، بل رفعَ الغطاءِ عنه والسعيَ الجِديَّ مع القِوى الحيّةِ والمجتمعِ الدوليّ لتغييرِه.
إن المسؤوليّةَ الوطنيّةَ تَفرِضُ أن نَعرِضَ واقعَ لبنان على الدولِ الكبرى ونُطالبَها بتنظيمِ مؤتمرٍ دوليِّ لإنقاذِ لبنان وتثبيتِ دولتِه على أسسٍ جديدةٍ في ضوءِ العثراتِ التي رافقَت تجربةَ دولةِ لبنانَ الكبير. الوزيرُ بومبيو سَمِع هذا الاقتراحَ وأُعجِبَ به. عسى أنْ يُثيرَه الرئيسُ عون مع الرئيسِ الروسيِّ فلاديمير بوتين.