صحيح أنّ المسؤولين اللبنانيين أخذوا وقتهم لقراءة معاني زيارة بومبيو الى بيروت والتي انقسمت بين مواقف عادية معروفة وكلاسيكية خلال لقاءاته المغلقة، وبين الموقف المدوي والعاصف الذي ادلى به في وزارة الخارجية والذي كان مكتوباً ومعدّاً قبل وصوله الى لبنان وربما قبل مغادرته واشنطن.
الرعد الذي نتج من العبارات القاسية في كلام بومبيو كان بمثابة القنبلة الصوتيّة التي تحدث ضجيجاً قوياً ولكن من دون أن تهدّد حياة أحد. والّا فلماذا لم يتحدث عن طريقة ترجمة كلامه ووعيده، كالتلويح مثلاً بوقف المساعدات عن لبنان أو اتّخاذِ إجراءاتٍ قاسية تصيب اقتصاده.
لا بل، وبخلاف ذلك، فهو عرض وساطة بلاده خلال لقاءاته المغلقة لإنجازِ ترتيبٍ جديد حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل.
وفي حين لقي طرح بومبيو بالوساطة تفهّم بعض المسؤولين اللبنانيين على ان يتم درسه، فإنّ فريقاً آخر من المسؤولين أبدى حذره من أن يفتح نجاحُ هذه الوساطة في الملف البحري لاحقاً الباب امام وساطة للتطبيع السياسي بعد أن تكون «صفقة القرن» قد ترسّخت وفتحت ابواب التطبيع بين اسرائيل ومعظم البلدان العربية.
بومبيو وخلال لقاءاته المغلقة تحدث عن عودة للنازحين ولكن في هذه المرحلة وقبل اكتمال خطوات مطلوبة في سوريا. وكلامه استبق زيارة الرئيس عون لموسكو حيث سيكون بند إعادة النازحين أحد ابرز الملفات المطروحة ومن خلال إعادة إحياء المبادرة الروسية في هذا الإطار.
ومعه يصبح أحد أهداف الكلام العلني العنيف لوزير الخارجية الاميركية بمثابة السعي الى تخفيف الضغط اللبناني والحراك الحاصل على هذا الصعيد.
لكن المشكلة أنّ واشنطن لا تقدم إجابة واضحة ومحددة حول تاريخ إعادة هؤلاء النازحين الى بلادهم. لا بل إنّ ما يقلق اللبنانيين كثيراً هو اقتراب تكريس الهوية الدينية اليهودية لدولة اسرائيل بالتوازي مع تثبيت التسوية الاسرائيلية ـ الفلسطينية والتي باتت معروفة بـ«صفقة القرن»، ومعه لا بد من خطوات إدارية تؤدي الى «ترانسفير» (تهجير) يطاول المجموعة العربية في إسرائيل بشكل هادئ وتدريجاً، وفي الوقت عينه توطين فلسطينيي الشتات في أماكن وجودهم، وهو ما يطاول لبنان حكماً.
وفي موازاة ذلك، فإنّ قانوناً يجري اعداده في العراق يسمح بإعطاء الجنسية لكل شخص أقام مدة سنة في البلاد وهو ما يعني ضمناً تشريع الأبواب أمام تغييرات ديموغرافية ستحصل.
في المحصلة، انّ المرحلة الجديدة التي بدأت تدخلها المنطقة تسمح بحصول تبدلات ديموغرافية، وهو ما يجعل اللبنانيين مرتابين بقوة من ابقاء مليون ونصف مليون نازح سوري على أرضهم والسعي الى دمجهم من خلال تقديم المساعدات والإغراءات وفتح أبواب العمل لهم ومن دون وجود خطة واضحة حول إعادتهم.
وهذا يعني انّ زيارة بومبيو كانت تحمل هدفين فعليّين: واحد له علاقة بترسيم الحدود البحرية والثاني بتخفيف الضغط على ملف النازحين السوريين. ولكن وفي موقفه الرسمي المكتوب الذي أعلنه من وزارة الخارجية، سعى بومبيو الى أهداف عدة تتجاوز الحدود اللبنانية، ويبقى أحد أبرز هذه الأهداف مساعدة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في انتخاباته الداخلية والتي يعاني منها بعض الشيء بسبب ملفات الفساد التي تلاحقه.
ولأنّ صورة «الخطر الخارجي» الذي يطاول الامن القومي هي وحدها القادرة على حجب صورة الفساد عن الناخبين، فقد كان لا بد من موقف «هادر» في اتجاه إيران و«حزب الله».
واليوم يبدأ نتنياهو زيارة لواشنطن للمشاركة في مؤتمر «ايباك» السنوي، وذلك قبل اسبوعين من الانتخابات الاسرائيلية. وبات معلوماً انّ الرئيس الاميركي دونالد ترامب سيقدم هدية انتخابية ثمينة جديدة لنتنياهو بإعلانه اعتراف بلاده بسيادة اسرائيل على هضبة الجولان.
وتردّد في الاوساط الديبلوماسية انّ ترامب كان سيعلن قراره هذا في خطابه السنوي أخيراً، لكنه قرر إرجاءَ إعلانه ليستفيد منه نتنياهو انتخابياً.
والجولان الذي يشكل 50 % من انتاج المياه المعدنية لإسرائيل و40 % من لحوم البقر، سيعني ضمّه الى إسرائيل تغييراً إضافياً لخريطة المنطقة، إضافة الى حصول تبدلات ديموغرافية لاحقاً.
وقبل الانتخابات الاسرائيلية فإنّ تركيا التي تعيش وضعاً مأزوماً مع الاميركيين ستشهد انتخابات بلدية قد تؤدي الى نقطة تحوّل نفسية ضد حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، ذلك انّ المدن الثلاث الأكبر تبدو فيها الامور محشورة.
لذلك طلب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم التنحّي من منصبه الحالي كرئيس للبرلمان والترشح لرئاسة بلدية اسطنبول وهو الذي يحظى بتقدير السكان بسبب إنجازاته حين كان وزيراً للمواصلات، ولكن التقدم الذي يسجله لا يتجاوز الثلاثة في المئة.
وفي أنقرة العاصمة وثاني أكبر المدن فإنّ مرشح الحزب الحاكم متأخر بنسبة 3 %. وتبقى أزمير ثالث أكبر المدن فإنّ احتمال خسارة مرشح الحزب الحاكم هي أكبر.
وفيما يدخل الاقتصاد التركي رسمياً مرحلة ركود، فإنّ قدرة مواجهته لواشنطن تصبح أضعف وهو ما يراهن عليه الاميركيون لفرض حلولهم في شمال سوريا.
ولا تقف الاخبار السارة لترامب هنا فقط. ففي الداخل الاميركي يبدو انّ تحقيق مولر لا يتضمّن توجيه إتهامات لأحد، ما يؤدي الى توجيه ضربة لخصوم ترامب. أضف الى أنّ الديموقراطيين لم ينجحوا حتى الآن في بلورة استراتيجية انتخابية تمكّنهم من اطاحة ترامب.
حتى الآن هنالك 16 مرشحاً ديموقراطياً، ولكن السباق ينحصر بين ستة اضافة الى نائب الرئيس الأسبق جو بايدن، وهؤلاء تخطى معظمهم السبعين من العمر ما يفقدهم جاذبية المواجهة.
ترامب يتفوق بالأداء الاقتصادي، وهو الآن يستعد لانتصار في السياسة الخارجية مع إعلانه «صفقة القرن» ، كما يستمرّ في رصّ صفوف كتلة الناخبين البيض، إن من خلال العناوين الداخلية، او من خلال دعم إسرائيل اللامحدود، ومهاجمة إيران و«حزب الله»، ومعه فإنّ دويَّ مواقف بومبيو في بيروت لا بد أنها لقيت الصدى المطلوب لدى القاعدة الانتخابية لترامب.
في اختصار، بدأت الريح تهب لمصلحة ترامب وسياسته، وهذا ما يجب أن يدفع لبنان الى القلق اكثر، إذ إنّ ترامب يريد تغييراً في الشرق الأوسط، لا بل انقلاباً، والدول الصغيرة تدفع الثمن في حالات كهذه، على ما يروي التاريخ.