“يبقى أن ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ومعها بريطانيا وفرنسا ودول عربية، يعيد إلى الأذهان السؤال حول سبب التساهل مع هذا الحشد الكبير من “الأجانب” المنتشرين في لبنان، باسم الطب والتعلّم والدراسات والبيئة والخدمات وخلافه…
سقى الله عقد الثمانينيات، إنه الزمن الجميل حقاً!”.
الفقرة أعلاه كتبها رئيس تحرير “الأخبار” ابراهيم الأمين الذي يتمتّع بقدرة لا سابق لها على قلب المعاني والدلالات: الصحافيّ ليس من يكتب بل من يهدّد. المدينة لا تزدهر بمدى استقبالها للأجانب بل بمدى خطفها لهم (على غرار ما كانه “الزمن الجميل” في الثمانينات).
لكنّ قلب المعاني ليس ميزة يتفرّد بها الأمين، أو أنّه، بالأحرى، ليس مزاجاً خاصّاً به مفصولاً عن كلّ واقع عريض. إنّ قلب المعاني هو مزاج الواقع اللبنانيّ نفسه: طرف مسلّح غير شرعيّ أقوى بلا قياس من الدولة وجيشها. مقاتلو هذا الطرف الذين يُفترض أن يقاتلوا في الجنوب، تبعاً لروايتهم عن أنفسهم، إذا بهم يقاتلون في الشرق…
تلك المقدّمات الأصليّة يخدمها مسار محدّد. حزب الله ومن ورائه إيران مأزومان اقتصاديّاً، لكنّهما أيضاً، بفعل الضغوط الأميركيّة وآخرها جولة مايك بومبيو الحاليّة، قد يتحوّلان طرفاً مأزوماً سياسيّاً. هذا يعني أنّ الانتصار العسكريّ الذي تحقّق في سوريّا قد تستحيل ترجمته إلى انتصار سياسيّ. فإذا صحّت معلومات وتكهّنات متناثرة حول تزايد الخلافات الروسيّة الإيرانيّة، زادت استحالة الترجمة.
إلى ذلك هناك الداخل اللبنانيّ: لقد راكمت خمسُ محطّات قوّةً هيوليّة لحزب الله، ودائماً بفضل الدعم الإيرانيّ:
أوّلاً، في 1989 – 92: اتّفاق الطائف الذي استثناه من الميليشيات ونزع السلاح بحجّة أنّه مقاومة. لقد احتفظ بسلاحه ثمّ شارك في الحياة البرلمانيّة والسياسيّة. هذا السلاح، إذاً، صار كليّ الشرعيّة. المشاركة اللاحقة في الحكومات كرّست ذلك.
ثانياً، في 2005 – 6: أزيحت عقبة رفيق الحريري وعقد الحزب “تفاهم مار مخايل” مع “التيّار الوطنيّ الحرّ”، كما حلّ في قيادة الجبهة الممانعة بعد خروج الجيش السوريّ من لبنان.
ثالثاً، في 2006، مع حرب تمّوز: لقد أعيد فرض أجندة الحزب فرضاً على المجتمع اللبنانيّ (المقاومة بدل الحرّيّة، معركة المصير بدل بناء مجتمع سياسيّ…).
رابعاً، في 2008، حين اجتيحت بيروت ثمّ جاء مؤتمر الدوحة يضاعف وزن الحزب في الحياة الداخليّة اللبنانيّة.
خامساً وأخيراً، مع المشاركة في قمع الثورة السوريّة ثمّ المشاركة في الحرب الأهليّة. الانتصار العسكريّ تلازم مع عسكرة نسبيّة للمجتمع اللبنانيّ على قاعدة تحالف الأقلّيّات المتأهّبة.
تراكم هذه الانتصارات أعطى الحزب ذراعاً للاستخدام على الجبهة الداخليّة للطوائف: تعزيز “اللقاء التشاوريّ” عند السنّة. نفخ المناوئين لوليد جنبلاط عند الدروز.
في المقابل: ضعف خصوم الحزب وتفتّتهم أضافا رصيداً آخر إليه. السياسات الأميركيّة المرتبكة إقليميّاً أضافت رصيداً ثانياً. انتخابات 2018 بدت مرآة دقيقة لواقع الحال.
لكنْ كما هي الحال مع الانتصار العسكريّ في سوريّا، ثمّة هنا حائط مسدود أيضاً. إنّه بعض ثوابت التركيبة اللبنانيّة: الاقتصاد والعلاقات الدوليّة والانفتاح على العالم. لقد بدأ يتبيّن أنّ تراكم الانتصارات شرع يصطدم رأسيّاً بتلك الثوابت. الأزمة الاقتصاديّة لإيران والحزب (التي أكّدها حسن نصر الله نفسه) تعزّز احتمالات الصدام. أزمة التوفيق (وهو توفيق مستحيل) هي بالضبط أزمة العونيّة والعونيّين بوصفهم حلفاء الحزب وورثة لون متشدّد من اللبنانيّة يُراد لـ “العهد القويّ” أن يعبّر عنه!
الإغراء بالعودة إلى الثمانينات، أي بالانتقال إلى الزمن التأسيسيّ، إغراءٌ في محلّه. في الثمانينات كان الرهان على خطف الرعايا الأجانب كأداة لتغيير الموقف الأميركيّ من حرب الخليج. اليوم، قد يلوح الاستخدام العاري للقوّة ضدّ الرعايا أنفسهم (وربّما ضدّ سواهم أيضاً) قادراً على إنجاز أهداف مشابهة، كفكّ الحصار عن إيران أو عن الحزب. لكنّ في ذلك شيئاً من النكوص إلى الطفولة الشيطانيّة لأنّ حياة النضج والرشد “المحترمين” لا تبعث السعادة في قلب صاحبها. هذه قد تكون أكثر من أمنية فرد. إنّها قد تكون خطّة جماعة اكتشفت حدود ما تتيحه السياسة وما يتيحه لبنان نفسه.