جرائم القتل «العقائدي» باسم الدين أو باسم الهوية واحدة في الحقيقة. ومع ذلك فإنّ الإدراكات لها شديدة الاختلاف، وكذلك تكون ردود الفعل. الطرفان اللذان كانا الأكثر ارتياعاً في مقتلة الجامعين بكرايستشيرش هما: رئيسة وزراء نيوزيلندا وشعبها، والمسلمون في أصقاع الأرض. وكلا الطرفين فوجئ من دون حدود: النيوزيلنديون لأنّ بلادهم لم تتعود على هذا الإجرام الجماعي، وقد سارعوا للقول إنه أسترالي وليس ليعتذروا أو يبرروا، بل للإهانة التي شعروا بها لهول الجريمة، التي تنال من شرف أمتهم وإنسانيتها - والمسلمون لأنها مذبحة ضد مصلّين عديمي الحيلة. ورغم اعترافهم بأنّ رد فعل السلطات النيوزيلندية كان لائقاً ورفيع المستوى؛ فإنّ كثيرين منهم ظلُّوا يعتبرون أنّ قتل المسلم في نظر الغربيين، أهونُ وقْعاً من قتل الآخرين. ففي «الإخبارية» السعودية لاحظ زميلٌ كبيرٌ وكريمٌ علي لأنني قلتُ إنّ القاتل من عقائديي اليمين الجديد، كما أنّ القتلة الداعشيين من عقائديي التطرف الإسلامي: لماذا عندما يقتل غربي سبق أن صرَّح أنه يقتل باسم المسيحية، لا يُعتبر من أهل الإرهاب المسيحي، ويقالُ غالباً إنه مختلٌّ أو مجنون؛ بينما عندما يقتل شابٌّ مسلمٌ يقول إنه يفعل ذلك بدوافع جهادية، نصدّقه، ونقول إنه إرهاب إسلامي؟! ثم كيف يقتل إرهابيون ثلاثمائة من المصلين بمسجد الروضة بسيناء ويظلُّ الإرهاب إسلامياً، بينما يمارس المتعصبون الدينيون أو الإثنيون في ميانمار عمليات قتل جماعي ضد المسلمين القاطنين معهم، ويشارك في ذلك الجيش وبعض رجالات السلطة، ثم لا يقال إن هذا إرهاب ديني بوذي، ولا تجد المذبحة نهاية حتى الآن؟ وبدلاً من إعلان الأُمم المتحدة حكومة ذلك البلد إرهابية أو فاشلة على الأقلّ، يظلُّ الأمل لدى المؤسسات الدولية الإنسانية قائماً في أنّ تتدخل الحكومة أخيراً لأمر الجيش بإيقاف المذبحة؟! تقول جهات المعرفة والخبرة إنّ الصينيين يحمون حكومة ميانمار، ويمارسون التصرفات نفسها ضد الأويغور المسلمين في سينكيانغ.
لا يزال «ضمير» العالم الحديث في عهدة الأوروبيين والأميركيين وحلفائهم. وهو في العادة ضميرٌ برع في مراقبة حقوق الإنسان والحريات الدينية لدى الغير. والغير بالطبع قد يكون روسياً أو صينياً، لكنه في الأغلب الأعمّ مسلم. تجادلْتُ عام 2006 في الجنادرية بالسعودية مع صمويل هنتنغتون الشهير بأطروحته في صراع الحضارات، وأحصيتُ له ارتكاباتٍ هائلة كانت تجري في العالم (2005 - 2006) ويقوم بمعظمها أُناسٌ غير مسلمين؛ فلماذا ينفرد المسلمون من وجهة نظره بأنهم يملكون تجاه الآخرين تخوماً دموية، أو أنّ العنف يميز علاقاتهم بالآخرين؟ فصمت قليلاً ثم قال: لأنّ العنيفين من المسلمين يعلِّلون لجوءهم للقوة بأنّ دينهم يقتضي ذلك، وهو ما لا يذهب إليه معظم المرتكبين الآخرين. وقلت: لكنّ معظم المسلمين أو كثرتهم الساحقة تبرأوا من هؤلاء، ولا تعتبرهم مسلمين صالحين. فأجاب متردداً: سيؤثر هذا الإنكار للعنف من جانب الأكثرية على الرأي العام العالمي في المدى الطويل، أما الآن فيكون عليكم أن ترغموا شبانكم المتطرفين على الانضباط وعدم استسهال العنف باسم الغضب أو الظلم، وقد نصحكم بذلك المستشرق برنارد لويس وآخرون كثيرون. لا يمكنكم تعليل ذلك بالاستعمار وبإساءات الغرب، فقد عانى الصينيون والهنود مثلما عانيتم وأكثر، لكنّ أحداً منهم لم يفكر في مهاجمة برج التجارة العالمي! أما استئثار الغرب بدعوى الضمير والديمقراطية وحقوق الإنسان فمبرره أنّ الغربيين استطاعوا جعل هذه الاعتبارات قيماً إنسانية عالمية. وقد يتسلم الصينيون زمام السيطرة في العالم قريباً، لكنّ هذه القيم ستظل هي السائدة حتى لديهم أو أنهم سيظلون يدعون حراستها. وذلك - كما سبق القول - لأنّ تلك القيم والمبادئ صارت قيماً عالمية إنسانية وإلى أجلٍ غير مسمى!
فلنذهب إلى الجهة الأُخرى. في أواسط العام 2018 صدر كتابٌ لفرنسيس فوكوياما اسمه: الهوية. وفوكوياما هو صاحب أُطروحة «الإنسان الأخير» في كتابه مثل مقالة هنتنغتون من العام 1993. وقد قال فيه (فلسفياً وليس استراتيجياً مثل هنتنغتون) إنّ قيم الديمقراطية سجلت انتصاراً نهائياً بسقوط الاتحاد السوفياتي، والذين لم يلتحقوا بها (مثل المسلمين أو الصينيين) لن يستطيعوا إيقاف تقدمها. لكنه وبعكس هنتنغتون تراجع عن ذلك الاعتبار (الفلسفي) بعد غزو أميركا للعراق عام 2003 وتدميره. ما سمّى فوكوياما في كتابه الجديد متطرفي الهوية يمينيين جدداً، بل ذهب إلى أنّ الهوية لها عدة منافذ ومداخل ومصادر، ولها جانب ديني ولكنه ليس قوياً ولا غالباً، بل يلتحق بالإثنية والقومية والمحليات ويتمثل بمثالاتها. والهوية بعكس القومية ليس امتداداً أو سيطرة، بل هي تقوقُعٌ وتطلُّبٌ للطهورية. وفي هذا المنزع فقط تشبه الدين الذي تظهر فيه من حينٍ لآخر اتجاهات وتيارات تطهرية، واضحة الآن لدى الإحيائيين المسلمين والإحيائيين الإنجيليين. ومع أنّ ظواهرها ليست واحدة، فهي تتشارك في الخوف والتطيُّر من الآخَر الذي يهدد صفاءها الإثني أو الجهوي أو الديني. وقد اختارت حتى الآن وسط ظواهر العولمة الشاسعة، أن تصل للسلطة أو تحاول من طريق الانقياد لقادة كاريزماتيين، وإجراء تحالفات مؤقتة، وهي تعلم أنها لن تصبح أكثرية إلاّ في ظروف استثنائية مثل الأزمات الاقتصادية. ولذا فإنّ كثيرين من أهل هذه النزعة يلجأون للعنف (الذي يكون شعائرياً أحياناً عند اشتداد الأزمة) لنفاد الصبر، وتفاقم الإحساس بالتلوث من الغير أو من الكثرة الداخلية وأحزابها الكبيرة. وهم يعادون الآخرين من المهاجرين وغيرهم للتطهر من التلوث، لكنهم يظلون شديدي العداء للآخر الداخلي (الذي يخالفهم في منزعهم)، ويظل في نظرهم العدوّ الرئيسي، كما حدث في النرويج قبل سنوات.
ستتكرر أحداث العنف الأعمى الكاره وفي الواجهة الآن الغرباء والمهاجرون. لكنّ المراقبين مختلفون بشأن تطورات هذا النزوع الطهوري الإجرامي. هناك من يقول إنه لا حاجة لهذا العنف المفرط ما دام هؤلاء يتقدمون في الانتخابات ويصلون للسلطة، كما حدث ويحدث في عدة بلدانٍ أوروبية. وهناك من يرى أنّ هذا الخوف المعولم سيدفع دائماً للعنف، وليس في أوروبا فقط؛ بل وفي آسيا وأفريقيا أيضاً، وتارة للتخويف (= إدارة التوحش)، وطوراً لأنّ الطهورية الشديدة مرضٌ ينتشر بالعدوى، وحبّ المغامرة لدى الشباب، وإلاّ فكيف يمكن تعليل ظاهرة شبان «داعش» وفتياته؟!
لقد جامل الغربيون التطرف الهوياتي كثيراً بحجة حرية التنظيم السياسي، وحرية التعبير. وما لوحق إلاّ الذين يقولون إنهم نازيون أو فاشيون أو يُعتبرون معادين للسامية. والمهدَّد الآن ليس الأمن المعيشي أو الحريات فقط؛ بل والمهدَّد أيضاً مقولة: الضمير أو التفوق الأخلاقي.