لا تبدو المجزرة التي ارتكبت في كرايست تشيرش في نيوزيلندا ضد مصلين مسلمين نافرة عن سياق عام بدأ ولن ينتهي في عالم هذه الأيام. يرتكب المجرم فعلته وفق قواعد العولمة في العصر الحديث. الأمر يتم بشكل علني ومباشر تتناقل منصات التواصل الاجتماعي وقائعه. ترتكب المجزرة بصفتها عملا مجيدا يدافع فيه “جندي” عن وطنه ودينه وثقافته وتقاليده من غزو الغرباء. وحين تنهال سيول الإدانة والاستنكار وتعبّر المنابر الرسمية، في الشرق كما في الغرب، عن صدمتها من الجريمة البشعة، تخرج من خلف غبار الحدث بيئة حاضنة تجد للجريمة تفسيرا عقلانيا قد لا يكون بعيدا عما يسوّقه أهل الكتابة والصحافة والسياسة علنا ودون مواربة ولا حرج.
يتحرّى “الرجل الأبيض” خلاصَه المزعوم. يكتشف منذ قرون أن “تفوّقه” ليس بيولوجيا كما اجتهد منظرو الأمر قبل أدولف هتلر وعتاة النازية المتأخرة. اقترن التفوق بالقوة القهرية، بما يعني حكما أن فرض السطوة يحتاج إلى دموية مفرطة تكون مجزرة نيوزيلندا داخلها تفصيلاً صغيراً من أجل المنتهى البعيد. وعلى ذلك يتحرك الذئب مفترسا طرائده، متّكئا على زاد أخلاقي ينهل قدسيته من كتب المسيحيين الأوائل وما فتك به أصحاب التأويل السياسي للنصوص. وما ترومه “الأخلاق” هو صناعة واقع جديد يراد من خلاله “استعادة” قوة المسيحي الأبيض لتحرير الـ“أنا” من رجس حاضر بات ملوثا بغزو “الآخر”.
المادة العنصرية واحدة على مرِّ التاريخ الحديث لحماية الهوية البيضاء. راجت تلك المادة بكثرة في نهاية القرن التاسع عشر، وباتت ديدن تيارات ومشارب رأت في أي تطور تهديدا للثوابت. فأن تروج البروتستانتية ضد الكاثوليكية، وأن تصعد الشيوعية على حساب الرأسمالية، وأن يزدهر اليسار مقابل اليمين، وأن تختلط المجتمعات بأعراق ومذاهب وتيارات فكر، فتلك أخطار وجودية استلزمت بناء صرح مضاد لا يرى في هذا العالم إلا لونين. الأسود والأبيض. المؤمن والكافر. الوطنيون والخونة. في ذلك أن هذه العقائد التي تدّعي الطهرانية تحارب “آفات” أصابت العالم الغربي، ولا يهمّها ما طرأ في الفكر والعقيدة والسياسة والاقتصاد في العوالم الأخرى.
يعلن القاتل في نيوزيلندا أنه ليس ضد الإسلام والمسلمين بل هو ضد تكاثرهم. يخشى من تضخم حجمهم داخل ما يعتبره الوطن الأم، ولا يكترث لتكاثرهم في بلادهم. كان “الأبيض” يجد في اليهود خطرا وعلّة ورجسا ينبغي التطهّر منه. اختار النازيون “الحل النهائي” لتصفية المشكلة اليهودية وفتحوا لليهود محارق “الهولوكوست” الكبير. خاف “الأبيض” من الشيوعية فأباح الفتك بها وحلّل الانقضاض على المؤمنين بها. وحين تجد العقائد البيضاء في الإسلام طريدة شرعية للعصر الراهن، فإنها في ذلك تغرف من قول واحد ولهجة واحدة تتأقلم برشاقة مع لغة العصر وأدواته.
في أواخر القرن التاسع عشر استخدم الفرنسي موريس باريس تعبير “الاستبدال الكبير”. كان الرجل واحدا من المؤسسين لليمين المتطرف الفرنسي ووفّر مادة دسمة لعقائدييّ التطرف اليميني الأوروبي بداية القرن العشرين. ثم إن هذا التعبير عاد للرواج بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ضد “الزنوج” (الجنود الأميركيين) و“المغول” (الجنود الروس). غير أن هذا التعبير الذي جعل منه ذئب نيوزيلندا عنوانا لإنجازه، عاد وازدهر على يد الكاتب الفرنسي اليميني رينو كامو عام 2011. وجد الرجل في المسلمين عدوا جديدا. الفكرة بسيطة: “وجود المسلمين في فرنسا خطر محتمل ومدمر على الثقافة والحضارة الفرنسية”. تستند النظرية على أن الكاثوليك الفرنسيين البيض، والمسيحيين الأوروبيين البيض عموماً، يتعرضون لـ”استبدال” منظم بغير الأوروبيين، خاصة بالعرب والمسلمين. وعلى هذا يردّد الشعبيون الأميركيون في تظاهراتهم عبارة “لن تستبدلونا”.
قد يمكن الحديث كثيرا عن نصوص صاغها فلاسفة وكتاب وروائيون، ومنهم أسماء لامعة، لطالما رددت نظريات تمّ الغرف منها لتعبيد الطريق أمام صعود التيارات الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف. غير أن المسألة أخذت بُعدا آخر منذ وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة.
راجت أفكار اليمين المتطرف ووصلت إلى ذروتها مع صعود الأنظمة النازية والفاشية في أوروبا. بيد أن هزيمة ألمانيا النازية وسقوط فرانكو الإسباني وموسوليني الإيطالي لاحقا، سددت لتلك العقائد ضربة قاتلة. أقام المنتصرون نظاما دوليا يبرر انتصارهم، من خلال بناء منظومة أخلاقية عمادها التعايش والتعدد والاختلاط والاعتراف بالآخر وتثبيت مسألة التساوي بين الأعراق، على نحو يطيح نهائيا بتفوق العنصر الآري على البشرية جمعاء.
لم تمتْ العقائد المنهزمة. باتت خجولة. يشعر من بقي من المؤمنين بها بالعار في الإجهار بها. على هوامش الأنظمة الديمقراطية تواجدت أحزاب يمينية متطرفة تتبرّأ من الحقبة النازية وتنادي بالدفاع عن الخصوصية القومية وأولويتها على قوميات الآخرين. بقيت تلك الأحزاب على هامش الحياة السياسية تتقدم وتتراجع بنسب ضئيلة داخل المشهد السياسي العام في أوروبا. كانت للولايات المتحدة حكاية أخرى وتاريخ مختلف ورواية بيتية أخرى. لم تكن تتيح رواجا لذلك اليمين الأوروبي، مقابل رواج عنصرية تعددت أشكال حضورها كما أشكال مكافحتها من داخل الأدوات السياسية الأميركية. بيد أن ظهور دونالد ترامب وفّر جسرا كان مفقودا بين خطاب اليمين الشعبوي الأوروبي ومنصات الولايات المتحدة الكبرى.
حمل ترامب تلك العقائد. “أمركها” وأعاد تسويقها في الولايات المتحدة، وجعل من المنتج الخجول الموسوم بالعار بضاعة أميركية تنتج رئيسا وتدخله البيت الأبيض. أُعيدَ تصدير المنتج من جديد ليصبح بضاعة “مشرّفة” يخوض اليمين الأوروبي المتطرف على أساسها الانتخابات في أوروبا. تقدمت التيارات الشعبوية بأفكارها واخترقت دوائر الحكم والنفوذ في بولندا وهنغاريا وألمانيا والسويد وإيطاليا، وكادت مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي أن تخترق أبواب الإليزيه.
على ذلك فإن مجرم نيوزيلندا الذي يقاتل من خلال إعادة الاعتبار لـ”الحل النهائي” النازي المنقرض، يجد في ما يقوله رؤساء دول وبرلمانيون ووزراء وزعماء أحزاب وكتاب وصحافيون ما يبرّر فعلته وربما جعلها عملا وطنيا يحتذى (راجع مواقف مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا وخيرت فيلدرز أحد قادة ذلك اليمين في هولندا وألكسندر غاولاند زعيم حزب البديل من أجل ألمانيا وماتيو سالفيني نائب رئيس الوزراء في إيطاليا وفيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا.. إلخ).
تتحمّل منظومة السياسة والثقافة في العالم الغربي توفير بيئة واكبت صعود اليمين المتطرف إلى أن بات يهدد كل النظام الدولي الذي ابتدعه الغرب في عالمه قبل عالم الآخرين.
تواطأت صحف الغرب وجامعاته ومراكز أبحاثه على شيطنة الإسلام وظاهرة المهاجرين قبل أن يولد تنظيم القاعدة وتنظيم داعش بعد ذلك. تسابقت الصحف والمجلات على إبراز الظاهرة الإسلامية على الأغلفة والصفحات الأولى بصفتها مادة جاذبة تخدم أغراض البيع والتسويق. وفّرت تلك المنظومة شرعية لتيارات اليمين المتطرف للمضي قدما في النفخ ضد العدو المهدِّد للهوية وبيعه في أسواق الانتخابات، وجعل أمر الانتقال مما هو سياسي إلى ما هو دموي إفنائي للآخر مسألة وقت تحتمل وجهات نظر.
وضع مجرم نيوزيلندا تعبير “الاستبدال الكبير” عنوانا لفعلته السوداء. صاحب هذه النظرية، رينو كامو أدان قبل أيام بأشد العبارات تلك الجريمة مُبرِّئا نظريته من رجس دموي بهذا المستوى. كان كامو قد أدين في بلاده قبل سنوات بتهمة التحريض على الكراهية ورُدت عنه تهم معاداة السامية. وفيما تنظر المحاكم ببرودة في مضامين القول وقسوته يقتل ذئب أسترالي في نيوزيلندا ببرودة مسلمين جاؤوا من ديار بعيدة.
يقتل داعش والقاعدة باسم فكر أنتجته مطابخ بورا بورا وضواحيها، ويقتل مجرم كرايست تشيرش وهو يغرف بفخر من فكر أُنتج في باريس. في المشترك تأليه الـ“أنا” وكره الـ“الآخر”.