هناك خريطة نفوذ جديدة بدأت ترتسم في سوريا. ومعها سترتسم خريطة نفوذ جديدة للقوى الدولية والإقليمية على مستوى الشرق الأوسط ككل. وعلى الأرجح، عندما تتمّ صياغة التسوية السياسية في سوريا، وتبدأ مرحلة إعادة الإعمار وعودة النازحين، سيتمّ إنتاج تسوية أيضاً في الملف الفلسطيني.
فزيارة بومبيو لإسرائيل تحمل مغزى خاصاً هذه المرّة، خصوصاً مع رمزية نقل السفارة إلى القدس وزيارات محتملة للجولان والحدود مع لبنان، في ظل اهتزازات داخلية تشهدها غزّة وتحضيرات للانتخابات التشريعية الإسرائيلية.
يقول المطلعون: «إذا تمكّن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، من العودة إلى الحكم قوياً بعد الانتخابات، كما يتوقع، فمن المحتمل أن يجري تحريك ملف المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية حول المراحل المقبلة من التسوية، برعاية أميركية، ومباركة القوى العربية الوازنة. ولذلك، هناك حراك أميركي مُكثَّف في اتجاه المنطقة خلال المرحلة المقبلة.
وعندما تتحرك المفاوضات، سيكون الضغط على إيران قد بلغ الذروة، بهدف تعطيل دورها الإقليمي ومنعها من «خردقة» التسوية من خلال حلفائها، سواء في غزة أو عبر الجولان أو الحدود مع لبنان. وسيكون الإيرانيون أمام أحد خيارين:
1- أن يصرّوا على التصعيد وبلوغ المواجهة التي من المرجّح أن تتَّخذ وجوهاً سياسية واقتصادية، لا عسكرية. وهذا الأمر له أكلافه الباهظة عليهم، في ظل الحصار الدولي والأزمة الاقتصادية المتنامية في الداخل.
2- أن يقرِّروا التنازل والخروج من اللعبة بما يتوافر لهم من مكاسب، عبر صفقة يعقدونها مع واشنطن.
وهناك مَن يعتقد أنّ الإدارة الأميركية ستواصل تجييش القوى الدولية والإقليمية حتى إجبار إيران على التراجع وعقد الصفقة. وهذا السلوك يُعبِّر عن شخصية الرئيس دونالد ترامب المعروف عنه أنه بارع في إجبار خصمه على عقد الصفقة بعد وصوله إلى أدنى درجات الضعف. وترامب يُصوِّر نفسه، في كتابه «فن الصفقة»، بأنه «محترِف صفقات».
سيكون الموقف الروسي هو الدافع الأقوى إلى رضوخ إيران للصفقة. فالروس يريدون أن تكون الورقة السورية لهم، لا لإيران. وهم مستعدون للمقايضات في هذا الشأن، مع الولايات المتحدة أو تركيا أو إسرائيل. كما أنهم يبحثون عن مصالحهم، خصوصاً في لبنان والعراق ومصر ودول الخليج.
لكنّ الروس، في الوقت عينه، لا يريدون التخلّي عن إيران، ولا يمكنهم الاستغناء عن دورها ومهماتها. وهم يفضِّلون إشراكها في التسويات وإعطاءها جوائز الترضية لعدم إغضابها، ولكي تبقى لهم الحليف الدائم.
والطريقة التي يعتمدها الرئيس فلاديمير بوتين تقوم على الآتي: لن تنعزل إيران تماماً عن حلفائها في الشرق الأوسط، على رغم من الضغوط الأميركية. وهي مضطرة إلى الاستعانة بموسكو لتقوية مواقعها، وأحياناً ستنسحب تاركةً لها رعاية هؤلاء الحلفاء، خوفاً من سقوطهم تحت وطأة الضربات الأميركية.
ومن أبرز الأمثلة أنّ الإيرانيين اضطروا إلى التسليم بأنّ الدور الأساسي في دمشق هو لموسكو وليس لهم، لأنّ الروس هم الذين يوفَّرون الصمود الحقيقي للأسد حالياً، ضمن توازنات توافقوا عليها مع تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة. وأما النفوذ الإيراني في سوريا، فالمعطيات المقبلة هي التي ستتكفَّل بتحديده، فيما الأميركيون كرَّسوا نفوذاً وازناً لهم في الشرق والشمال.
ومن هذه الزاوية، يجدر النظر إلى الدور الذي يضطلع به لبنان في الاستراتيجية الأميركية. ووفق المتابعين، إنّ هدف واشنطن هو الاحتفاظ بلبنان ليكون قاعدةً أساسية لحضورها الاستراتيجي في الشرق الأوسط. ولذلك، هي تضغط عليه اليوم لعزله عن دائرة النفوذ الإيراني والطموحات الروسية، وتُسلِّف لبنان دعماً على مختلف المستويات:
1- دعم الجيش اللبناني والتنسيق معه أمنياً، ومع المؤسسات الأمنية.
2- دعم القطاعات المالية اللبنانية، ولا سيما منها القطاع المصرفي.
3- الدعم الاقتصادي.
4- توفير التغطية السياسية للبنان في المحافل الدولية.
5- رعاية التسويات التي توفِّر الاستقرار الداخلي.
6- الحؤول دون تعرّضه لخضّات أو اعتداءات حدودية.
لكن لبنان بقي دائماً يدفع ثمن استفادته من الحضانة الأميركية، حتى في المرحلة التي كان فيها السوريون يديرون كل شيء داخلياً. والثمن هو عدم خروج لبنان من واشنطن... لا إلى طهران ولا إلى موسكو ولا إلى الأوروبيين. فلكل من هؤلاء حصَّته. وأما الرعاية الأساسية فتبقى أميركية. والحجم الذي قرَّرت واشنطن إعطاءَه للمبنى الجديد لسفارتها في عوكر له دلالاته المستقبلية. ومن هنا يمكن إدراك الرغبة الأميركية في إبعاد إيران عن القرار اللبناني، وضبط حدود التقارب بين لبنان وروسيا عشية زيارة الرئيس ميشال عون لموسكو.
وعموماً يبدو لبنان «منضبطاً» تحت السقف الأميركي. وهو عاجز عن «الإفلات» تحت طائلة اهتزاز استقراره المالي والعسكري والسياسي والاقتصادي. ويكفي تحريك الدعاوى القضائية المقامة في نيويورك على مصارف لبنانية لإحداث زلزال في لبنان.
ويعتقد البعض أنّ دوران لبنان في الفلك الأميركي يأسره ويحرمه من قدرات أخرى قد يتيحها الانفتاح على قوى دولية أخرى، ولا سيما منها موسكو. لكن أخرين يعتبرون أنّ الرضى الأميركي الدائم يوفِّر للبنان ضمان استقرار داخلي وخارجي.
وهكذا، فإنّ الذكاء اللبناني يكمن في براعة الاستفادة من طاقات مزيد من القوى الدولية والإقليمية، من دون استفزاز الولايات المتحدة. وفي تحويل هذا التهافت على لبنان نقطة قوة لا نزاعاً مدمِّراً. لكن هذا الذكاء يحتاج إلى أن تكون في السلطة مرجعيات تتَّصف بالحكمة وعدم الارتهان للقوى الخارجية. وهذا أمرٌ يحتاج إلى كثير من النقاش.