هذه السيناريوهات، طافت بها أروقة السياسيين والمحللين في لبنان، الجامع المشترك بينها انّها فرضيات غير مبنية على معطيات تؤكّدها، بخلاف تقييم مستويات غربية ادخلت مسؤولين لبنانيين إلى الفناء الخلفي لجولة بومبيو، ومكّنتهم من التقاط الخلاصات الآتية:
- في الظاهر، تأتي جولة بومبيو، لتكرار المُكرّر حول تجديد «التزام واشنطن بدعم حلفائها، ومواجهة الخطر الايراني عليهم. وهي لغة يحب ان يسمعها اعداء ايران في المنطقة. والتي تستطيع واشنطن من خلال تكبير خطر الغول الايراني، ان تملأ الدلو الاميركي بالدولارات الخليجية.
كما في اساس الجولة هنا، هو تأكيد إنحياز واشنطن إلى التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، إلى جانب المزيد من الدفع الأميركي لدول المنطقة نحو ما تسمّى» صفقة القرن»، بوصفها الحل الوحيد للصراع العربي- الإسرائيلي، ومفتاحاً للتطبيع الاقتصادي والسياسي الكامل مع اسرائيل.
- وأما في الجوهر، فالعنوان الأول والأخير لجولة بومبيو، هو اسرائيل. إذ انّ وزير الخارجية الاميركية يصل إلى المنطقة في توقيت إسرائيلي حسّاس لنجدة «الحليف الحقيقي»، أي بنيامين نتنياهو، قبل أقل من شهر من موعد الانتخابات العامة في إسرائيل، والتي يبدو فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي محاصراً بقضايا الفساد والرشاوى، فضلاً عن عدم تمكّنه من تحقيق إنجازات نوعية سواء في سوريا او ضد «حزب الله» في لبنان.
ومن علامات هذا الدعم، الموقف المثير للحماسة الإسرائيلية الذي أطلقه بومبيو في تقرير وزارة الخارجية الاميركية قبل ايام، لناحية إسقاط صفة «الاحتلال» عن هضبة الجولان. وذلك بالتوازي مع حراك أميركي، على مستوى الكونغرس، يقوده السيناتور ليندسي غراهام، الذي تعهّد بأن تعترف واشنطن، بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة، وهو ما أعلن عنه نتنياهو في بيان يتزامن مع حملته الانتخابية.
- وفي جوهر الجولة ايضاً، محاولة اميركية واضحة لقطع الطريق على المحاولات الروسية الحثيثة الانفتاح على الدول العربية، والخليجية على وجه التحديد. الأمر الذي يصنّفه الأميركيون بمثابة الاعتداء المباشر على مصالحهم الحيوية في المنطقة.
- أما اختيار بومبيو لبنان واحدة من محطات جولته الشرق أوسطية، فيأتي ليؤكّد أنّ الوزير الأميركي راغب في اختبار كل ما سبق على الأرض اللبنانية. ففي «العنوان الإيراني» سيأتي بومبيو لـ»يحرّض» مجدداً ضد «حزب الله»، وبالتالي ضد إيران، وسيطلب مزيداً من التشدّد ضد المقاومة اللبنانية، التي لم يعد رقمها الصعب مقتصراً على الميدان العسكري، بل بات سياسياً بامتياز، وسيسعى جاهداً للضغط باتجاه مزيد من الإجراءات الهادفة إلى خنق «حزب الله» عسكرياً وتمويليا، عبر مزيد من التضييق واجراءات مصرفية وما شابه.
وبالنظر إلى الحساسية اللبنانية، فإنّ بومبيو سيمزج «التحريض» بـ»التطمين» في احاديثه مع المسؤولين اللبنانيين، عبر التشديد على أن لا عقوبات على الدولة اللبنانية، طالما أنها ملتزمة قولاً وفعلاً بسياسة «النأي بالنفس»، ومستعدة، أقلّه «نظرياً» لقبول الأمر الواقع الذي تسعى واشنطن لفرضه عليها، والمتصل بالعقوبات على «حزب الله».
في هذا الجانب، ينبغي لحظ تزامن وصول بومبيو الى بيروت مع استعداد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للقيام بزيارته الرسمية الأولى لروسيا، في ظل انفتاح متبادل على خط موسكو - بيروت، إن في السياسة، حيث باتت المبادرة الروسية لعودة النازحين جزءاً من البيان الوزاري للحكومة الجديدة، أو في الاقتصاد، مع تحوّل روسيا إلى شريك فعلي للبنان، من خلال مشاركة اثنتين من شركاتها في مشاريع النفط والغاز، الأولى في التنقيب (نوفاتيك) والثانية في التخزين والنقل (روسنفت)، فضلاً عن التحضيرات الجارية لتمهيد تربة الدخول الروسي في عملية إعادة الإعمار في سوريا من بوابة «لوجستية» في شمال لبنان (المنطقة الصناعية ومرفأ طرابلس).
على هذا الأساس، قد تكون زيارة بومبيو في عمقها، محاولة لكبح اندفاع لبنان نحو موسكو، بما يجعل نجاحها، ان حصل، نموذجاً يمكن تعميمه لكبح اي انفتاح من قِبل اي من الدول العربية على الروس.
وفي عمق الحضور الأميركي في لبنان، يقع ملف الحدود البحرية والنزاع القائم حولها بين لبنان وإسرائيل. فالسيناريو الأميركي يراعي اسرائيل بالكامل، ويبدو انه سيميل الى مزيد من التشدّد، خصوصاً في موازاة حديث يُوصف بالجدّي عن سيناريو روسي نقيض، تبدو فيه روسيا مستعدة للتحرك حيال هذا الملف، عبر تقديم نفسها كـ»وسيط نزيه» نقيض للوسيط الأميركي من جهة، وفرض نفسها على الإسرائيليين، بالنظر إلى أنّ غاز شرق المتوسط بات في معظمه نفوذاً روسياً.