صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يشهد فيها الجبل حدثاً تصالحياً من شأنه المساعدة على تعزيز العيش المشترك بين مكونَيْه الأساسيين، بعد تنقية وجدان أهله من أوجاع الماضي الأليم، غير أن لهذه المحطة رمزيتها في ذاكرة أبناء المنطقة لارتباطها بالأحداث الأليمة التي تلت اغتيال كمال جنبلاط. أما في السياسة، فتتصل خصوصاً بالعلاقة المتقلبة بين «الحزب التقدمي الاشتراكي» و»التيار الوطني الحر»، نظراً الى ما بينهما من جولات قاسية من الاشتباكات.
أكثر من ذلك، تكتسب هذه المشهدية أهمية خاصة نظراً لدور وزير شؤون المهجرين، المزدوج في هذا الملف، سواء حين كان قيادياً في «التيار البرتقالي»، أو حين صار على رأس «حقيبة الجبل» تحديداً. اذ سبق له أن خاض جولات من الحوار مع الاشتراكيين ضمن لجان ثنائية، وهو الأدرى بعمق هذه العلاقة ومكانتها في ميزان «الاستقرار النفسي» في الجبل.
اتسمت العلاقة بين «الاشتراكي» و»التيار» بنزلاتها المكثّفة والتي تجاوزت طلعاتها. بينهما مساحات شاسعة، فشل الفريقان في تجاوزها. الكيمياء المفقودة بين جنبلاط من جهة ورئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل من جهة أخرى، لعبت دوراً بارزاً في ابقاء خطوط التماس مزنّرة بالتوتر. أما تضارب المصالح بين الفريقين، فلطالما صبّ الزيت على النار.
سبق للجهتين أن حاولتا أكثر من مرة ردم الجسور المتقطعة بينهما، لكن كل المحاولات باءت بالفشل. قبل «العهد العوني» لم يبذل الاشتراكيون جهداً استثنائياً لترتيب العلاقة وتنظيمها ضمن تفاهم مكتوب توثقه العناوين السياسية. أما بعده، فتبدلت الأدوار، ولم يمنح العونيون هذا المسار فرصة مضاعفة لتعزيز العلاقة.
مع وجود غسان عطالله على رأس وزارة شؤون المهجرين، يواجه ابن الشوف تحدي النجاح، وهو يسعى بكل جهده لتجاوز امتحان تسميته وزيراً، دون غيره من الرفاق الحزبيين، بتفوق، وهو يدرك جيداً أنّ المرور بمعمودية المختارة إلزامي ولا مفر منه. ومن هنا يحرص على ايلاء البعد الانساني- الاجتماعي في مهمته، حيزاً بارزاً، لكي لا تتحول وزارته مجرد «دفتر شيكات»، سرعان ما سيصير حسابه بلا رصيد اذا ما لم تتوافر الأموال اللازمة.
وبهذا المعنى، يضع عطالله كل ثقله ليكون مشهد قداس يوم السبت، مكتملاً، خالياً من الشوائب. يريده مشهداً جامعاً، يضم كل مكونات الجبل، وتحديداً الدرزية منها. لذا تكفّل رئيس الجمهورية بمهمة تضجّ بالصعوبات، وتقضي بجمع جنبلاط مع رئيس «الحزب الديموقراطي اللبناني» طلال ارسلان، في محاولة لكسر الجليد بين الرجلين قبل جلوسهما في الصفوف الأمامية للقداس.
وفي هذا السياق يؤكد عطالله لـ»الجمهورية» أنّ القداس مكسب انساني للجميع، لا حسابات ضيقة فيه، وله مكانة خاصة في وجدانه كإبن بلدة بطمة الشوفية، ولذا أراد طيّ صفحته على نحو واضح لا لبس فيه يسمح لضحايا تلك المجرزة بإجراء عملية مسامحة حقيقية. ويؤكد أنّ الوزارة قامت بواجبها لجهة توجيه الدعوات إلى كل القوى السياسية بلا استثناء.
في الأساس، لا يعتبر مؤيّدو ارسلان أنفسَهم معنيين بالحدث خصوصاً أنّه مرتبط بمناسبة محددة، تخص الاشتراكيين من جهة والمسيحيين من جهة أخرى، إلّا أنّ التغريدة التي أودعها ارسلان البريد «التويتري» والتي قال فيها إن «لا لقاء مع وليد بك إلّا عند رئيس الجمهورية وفي حضوره»، سلطت الضوء على احتمال مشاركة الارسلانيين في القداس، خصوصاً أن وزير المهجرين لم ينفِ وجود مساع يقوم بها عون لرعاية المصالحة بين جنبلاط وارسلان، إلّا أنّ مسارعة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الى نفي الأمر، استدعى علامات التشكيك مجدداً.
وفيما يؤكد الارسلانيون وجود مساع هادئة لجمع «البيك بالمير»، ولكنها تحتاج في رأيهم إلى مزيد من الوقت لكي تنضج، ينفي الاشتراكيون هذا الاحتمال من أساسه، ولو أنّ ارسلان أورد في تغريدته أنّ «وليد بك هو مَن بادر ووضع هذا الأمر في عهدة فخامته».
عملياً، يقول خصوم جنبلاط إنّ الهوّة التي تفصل بينه وبينهم صارت كبيرة، وقد تحتاج إلى أكثر من جلسة مصارحة أو غسل قلوب في قصر بعبدا. ثمة خلاف حول التعيينات، مشيخة العقل، الأوقاف، حوادث الجبل الأخيرة وغيرها من المسائل العالقة. حسب ما يشيرون، فإنّ شعور رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في أنه مطوَّق، من جانب حلفائه القدامى قبل خصومه، يدفعه إلى توسيع نطاق «ربط نزاعه» مع «التيار الوطني الحر». لكنّ تسوية العلاقة مع خصومه الدروز تحتاج إلى مجهود استثنائي، لا يبدو أنه بات متوافراً.