أذكُرُ يومها أنّني كنتُ سهمًا في قوسِ إبليس. أذكُرُ يومها أنّ أمّي كانت تُعدُّ لي أشكالًا من الفاكهة لأرغبها، كانت التّفّاحة دعسوقةً والعنب سلسلة تشكّل دودة قزّ، كنتُ ألتهمها وأنسى شكرها. كانت شهوتي للطّعامِ تتفوّقُ على حُبّي لأمّي؛ أقولُ حُبًّا لأنّهُ لم يكن آنذاكَ قد ٱجتازَ أكثر من هذه المرحلة.
أذكرُ عندما كانت تنظّفُ لي غرفتي في حالة الفوضى، أنّها وجدت شيئًا هزّ كيانها: الرّسمة الّتي رسمتها لي ممزّقةً عفا عليها التّجاهل واللّامبالاة. مكعّبات الطّفولةِ الّتي كانت على الطّاولة قد حلّ مكانها كأس نبيذٍ امتصّها السّكرُ وتَفَّ فيهِا إبليس مرّتين! لم أكن أعبأ لهذا. أذاكِرُ مساءً وأرمي كتبي شتّان شتّان، ثمّ أمزّق رسمتَها الّتي كانت هديّتها في عيد مولدي الخامس، غير ملتفتٍ أنّها سكبت روحها، كسّرت قليلًا من عظمِها لتجعلَ اللّونَ العاجيّ أساسًا في تلكَ الرّسمة. مهما يكن، لقد كنتُ مُجرّدًا من الإنسانيّة!
أذكُرُ أكثر أنّه عندما كان منزلنا في الحيّ القديم - حيثُ تجاهلتهُ الأوساطُ والمعايير التّكنولوجيّ - كانت الأمطارُ تشنّ هجومًا متسلّلةً عبر الزّجاجِ المكسّر؛ لا تخدشُ نفسها تلكَ الأمطار ولا تنتَحر حينما تُسقطها السّماء، بل إنّها تخدش أمّي! عندما أعودُ من سهراتي مع رفاقِ السّوءِ، كانت أمّي تنتظرني متقوقعة، كأنّ جلدها الرّقيق يحترق لتُدفّئَ نفسها، لم يكن عندنا مدفأةٌ ولا غاز ولا كهرباء، لم يكن معنا سوى مصروفِ الطّعامِ و بدل أجرة المنزل وبعض الحاجيّات. كانت تنتظرني وهالةٌ من السّوادِ تحيطُ عينيها، يلمعُ فيهما وميضُ نجمٍ يقتربُ زمان أفولهِ. أجل، لقد كانت تودّعني بنظرات الاضطرابِ والتّوجُّس، وتستقبلني بنظراتِ التٌّؤدة والجوى. كانت تصمد لهذا الوقت المتأخّر محاربةً الكرى. الأسوأ من هذا كلّه أنّني كنتُ أتغاضاها، أنظرُ إليها لا لأتأكّدَ من أنّها ما زالت حَيّة، بل لجلستها الّتي لا يصمدُ أمامها أيّ بشريٍّ سوى ثانيتين!
أجل، أمّي أشعلت نجمها بولادتي، ولم يهمد ذلك النّجمُ إلّا حينَ الفناءِ. لقد كنتُ نيرون وأحرقتُ روما، لقد كنتُ ألوكُ قلبها وأعتصر كبدها وأمتصّ أورِدَتها خانقًا بها نورَ عسجَدِها، وأشعلُ لفافتينِ مُتناسِيًا ذاكَ الرّبو والرّماد الّذي كانت تنظّفهُ من فورها عن الأرضِ، لقد كنتُ صعقةَ أدرينالين، بيدَ أنّها لم تُشفَ بعدها!
أمِن مُستبدٍّ في العالم مثلي؟ أَمِن أُمٍّ جزّأت روحها فتشرذمت، وقضمت أنفاسها لأحيا، وباعت قمصانها الصّوفيّة لتدفعَ أجرةَ سقفٍ ينهارُ كُلّ يومٍ أكثر؟ لم أعبأ للوحتها، لافتِرارِ ثغرها، لرِضاها، لتضحياتِها! جُلّ همّي شهوتي!
عندما ماتت، كانت تنتظرني كعادتها، رجعتُ إلى المنزلِ، كانت تجلس وقد مال رأسها لليسار قليلًا، أردتُ أن أحرّكها، لكنّني لم أقم بذلكَ خوفًا من أن تستفيقَ. ظننتُ أنّني أقومُ بشيءٍ لها للمرّةِ الأولى في حياتي: أن أدعها تكمِلُ نومَها! جثّةٌ هامدةٌ في عقرِ دارها، لم يدرِ وقتذاك بموتِها سوى ذاك الملاكُ القابع جنبها، أتراهُ يلملم ما تبقّى من روحها في رئتيها الّتي كانت مقبرةً لرمادِ سجائري؟ أتراهُ يتلصّصُ عليّ ويريدني؟ لا، ابتعد، أرجوكَ أريد شهوتي!
ماتت أمّي ليلتها ومتّ أنا، كنتُ أجزاءً منها لا تزالُ حيّةً فيّ، وكنتُ أجزاءً منها ماتت فيها. أراني اليوم أطوفُ في نفس المكان الّذي همدت فيه، نرسيس اغفُر أخطائي، لقد طردني صاحبُ المنزل وخسرتُ وظيفتي وضللتُ طريقي، ثمّ لم يبقَ لي سوى موطنٍ واحدٍ، طريقٌ واحدٌ: إنّهُ رمسُ أمّي؛ هل لي أن أفتحه وأدفنَ نفسي في ما تبقّى منها؟
أريدُ أمّي...