كتابة التاريخ الفعلي للعراق، منذ الإطاحة بنظام صدام حسين، ستظل ناقصة من دون السيرة السياسية لآية الله السيد علي السيستاني.
فالرجل الذي يطرق أبواب التسعين قضى معظم حياته في العراق، متصدراً بعد وفاة معلمه آية الله أبو القاسم الخوئي صيف عام 1992، حوزة النجف، المستمرة في وجدان الشيعة منذ ألف عام.
هل أصاب الكاتب الأميركي توماس فريدمان عام 2005 حين رشحه في مقالة مثيرة بصحيفة «نيويورك تايمز» لنيل جائزة نوبل؟ هل أصاب حين جعله صنواً لنيلسون مانديلا وميخائيل غورباتشوف وكل منهما نجح في الهبوط الآمن ببلده؛ الأول منهياً حكم التمييز العنصري في جنوب أفريقيا بلا دماء، والثاني معلناً وصول الاتحاد السوفياتي إلى محطته الأخيرة بلا انهيارات كبرى؟! أم أصاب من رأى في فتوى السيستاني عام 2014، داعياً العراقيين للتطوع في الجيش العراقي المنهار بعد خسارة الموصل لصالح «داعش»، تشريعاً لهيمنة الميليشيات المذهبية على الدولة؟
بين الحدّين؛ حد «نوبل للسلام»، وحد الداعية المذهبي، تترجح السيرة السياسية المعقدة للسيستاني.
فبعكس تواضعه الشخصي، وهو المكتفي بسكن زاهد في إحدى الأسواق الشعبية الداخلية في النجف، والحريص على أن تغطى أرض داره بالسجاد الرخيص، والذي لا تتجاوز ضيافته كؤوساً من الشاي المختمر، له نصيب غير متواضع من القرار بشأن مصير العراق. وبعكس هدوئه وصوته الذي يخرج همساً، فصوت فتاواه يدوّي من شرق آسيا إلى لبنان، رغم أنه ليس من كبار علماء الشيعة علماً وتأليفاً ومكانة، إذا ما قورن بالسيد الخوئي مثلاً!
ما كان ممكناً للسيد السيستاني أن يبلغ ما بلغه من عمر، لولا تحليه بأعلى درجات البراغماتية، خلال وضعه تحت الإقامة الجبرية في عهد صدام حسين، الذي شهد اغتيال وتعذيب عدد من كبار علماء الشيعة ومراجعهم. وهي براغماتية فاقمت صعوبة فهمه، وزادت الالتباس حول موقعه وموقفه، لا سيما أن السيد السيستاني لا يدلي بمواقفه في الإعلام ولا يشرح أفكاره في مقابلات!
وصفته صحيفة «لوموند» الفرنسية بأنه الحصن في وجه إيران، ورأى فيه خصومه أنه «ولاية فقيه من نوع آخر»، خالية من رعونة النسخة الإيرانية.
رغم أصله الإيراني، فإن علاقته بإيران الخميني اتسمت بالسلبية المضبوطة، مفضلاً على المستوى العقائدي، الحوزةَ الصامتة، ودور الظل لرجال الدين، على الحوزة الناطقة التي انتهجها الخميني جاعلاً الحوزة هي الدولة... ولطالما لمح السيستاني، الذي تعنيه إيران بمقدار ما يعنيه العراق، إلى ميوله لمن يسمون «الإصلاحيين» في الداخل الإيراني، كما ظهر مؤخراً في استقباله الرئيس الإيراني حسن روحاني، بصفته أول رئيس إيراني يحظى بمثل هذا اللقاء، رافضاً قبلاً استقبال الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني. وكان استقبل الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني حين كان خارج سدة الرئاسة.
نطقت حوزة السيستاني مراراً في مفاصل أساسية من تاريخ العراق... فغداة الاجتياح الأميركي طلب من الشيعة الاعتصام بالهدوء (خلافاً لفتوى مقاومة الاجتياح قبل سقوط صدام)، ثم أصر على أن تغير واشنطن خطتها لمستقبل العراق فارضاً على الجميع أن تكون كتابة الدستور بيد عراقيين منتخبين، لا بيد الأميركيين أو بيد هيئات شكّلها الاحتلال، مهدداً بفتوى مضادة. لكن فتواه الأكثر إشكالية ستظل هي فتوى «الجهاد الكفائي»؛ أي التطوع الشعبي في الجيش والأجهزة الأمنية لمواجهة «داعش». تصر المرجعية على عدم استخدام مفردة «الحشد الشعبي»؛ بل استخدام «المتطوعين»، لا سيما أن الفتوى استغلت من ميليشيات موالية لإيران، معظمها تشكّل قبل الفتوى، واستخدمت رافعةً لهيمنة إيران فيما بعد على تشكيل «الحشد الشعبي»، وتأطير وتشريع الفعل السياسي للميليشيات.
مرجعية السيستاني التي بدت مهددة بالتهميش عامي 2006 و2007، إبان احتدام الاقتتال المذهبي في العراق، لصالح صعود العمامات الشابة؛ لا سيما مقتدى الصدر، ولصالح التقدم السياسي لإيران، عادت لتتصدر المشهد السياسي منذ انحيازها عام 2013 إلى الحراك الشعبي، ورمي وزنها خلف الإطاحة بعودة المالكي لولاية ثالثة لرئاسة الحكومة في 2014، ودعمها في انتخابات 2018 أطراً سياسية متباينة مع المالكي ومع «الحشد»؛ مثل حيدر العبادي ومقتدى الصدر، الذي كان أعاد تعريف موقعه السياسي أكثر من مرة!
تبدو المرجعية اليوم في أفضل ظروفها، في ضوء الانهيار التام لسمعة الأحزاب الدينية، وفي ظل قدرتها على النطق باسم العراقيين بشكل أوضح في وجه الأطماع الإيرانية في العراق، وهو ما بدا واضحاً في بيان السيستاني بعد لقاء روحاني وتضمينه رسائل مباشرة وحازمة منتقدة السياسات الإيرانية في العراق. لكنها أيضاً أعجز من تشكيل أمل أفضل للعراقيين. واقعها لا يخلو من تحديات كبيرة؛ أبرزها اليوم فشل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في مواجهة الضغوط الإيرانية واستكمال تشكيل حكومته، وهو فشل سيحسب على المرجعية. الأخطر أن هذا الأمر يحدث في ظل نضوب النادي السياسي الشيعي من نخبة ما بعد صدام، رغم فوزهم بالانتخابات بدفع من المرجعية، وصعود إما نخبة عمائم؛ كالحكيم والصدر، لطالما حاولت المرجعية إبقاءها بعيدة عن السياسة، وإما نخبة جديدة من رحم «الحشد الشعبي» معروفة بولائها المطلق لإيران.