يستمرّ وزير الخارجية جبران باسيل في إثارة الزوابع السياسية. لا يمرّ يوم في لبنان، دون أن يشغل باسيل البلاد والعباد بتصريح، يقلب الأمور رأساً على عقب. يضع باسيل نصب عينيه استهداف كل القوى السياسية، والتقارب معها في آن. يريد الحفاظ على التسوية مع تيار المستقبل، ولكنه في الوقت نفسه يتّهمه بالفساد وبضرورة المحاسبة. يسعى إلى تحجيم خصومه على الساحة المسيحية، لكنه يخرج بخطاب طائفي مسيحي، يهدف إلى شدّ العصب عنوانه مصلحة المسيحيين وأهمية توحدهم. يطلق مواقف تلائم المجتمع الدولي، لكنه يسارع إلى ضربها بمواقف تتلاءم وفق رؤية حزب الله ومصالحه الاستراتيجية. يقدّم المواقف لصالح النظام السوري في مختلف الملفات، ويدّعي السعي إلى وضع لوحة لجلاء الجيش السوري عن لبنان.
الرئاسة.. لا أقل
قول الشيء وفعل نقيضه سمته الواضحة. هذه هي خلاصة كلامه مثلاً في المؤتمر العام لـ"التيار الوطني الحر": "ما كان يجب أن أكون وزيراً. بل أُجبرت من أجل التيار والرئيس والبلد. وآمل بالخروج في أول فرصة من الوزارة، لمصلحتي وموقعي"، ثم يضيف قائلاً: "إن الحديث عن الرئاسة هو أذى للتيّار وللرئيس وللبلد. وهذا الحديث ممنوع معي والذين يفتحونه يريدون الأذى". ومجمل هذا التصريح يوحي ويلمح إلى معنى شديد الوضوح: "أنا جبران باسيل أهم من وزير. والحديث في رئاسة الجمهورية، أنا الذي يديره ويوقته ويصوغه". فمصلحته وموقعه (حسب كلامه) ليسا بالتأكيد مكتب الهندسة، ولا مجرد رئاسة حزب، بل قمة السلطة. ومن الأفضل السلطة كلها.
يقود منطق الأمور إلى خلاصة لا لبس فيها. هذا الرجل لا يكل بنشاطه في سبيل جملة أهداف، يريد تحقيقها، على رأسها الوصول إلى رئاسة الجمهورية. ينطلق من موقع رئيس الكتلة المسيحية الأكبر، المتحالف مع القوتين الشيعية والسنّية. وبالتالي، كل الظروف المحلية سانحة له للوصول إلى ما يطمح، حالما تتوفر الظروف الإقليمية والدولية. وهو، لذلك، يطلق مواقف متناقضة ومتعارضة، سعياً لتحقيق هذا الهدف. يوائم باسيل بين متناقضات. تارة يتخذ مواقف متوافقة مع الرغبات الأميركية، والقول مثلاً بانه لا يريد الحرب مع إسرائيل، التي لديها الحق بأن تكون آمنة، كما للبنان الحق في أن يكون آمناً. ولكن في المقابل، لديه مواقف أخرى أكثر التصاقاً والتزاماً بالتحالف مع حزب الله.
تلميع الصورة
يحرص باسيل على السيادة، ويحيي ذكرى 14 آذار 1989 (ما سُمّي "حرب التحرير")، لكنه في الوقت نفسه يصرّ على تطبيع العلاقات مع النظام السوري. وهو بذلك يحرج حلفاءه وخصومه في آن، يربك الحريري والحكومة، كما يحشر رئيس تيار المردة سليمان فرنجية مثلاً، الذي يبدو حالياً خالياً من أي مبادرة أو خيار، وإن كان يُعتبر صديق بشار الأسد الشخصي، والشخص المفضّل لدى النظام السوري، لكن باسيل ينطلق في تحركاته تجاه دمشق، من موقع القوة وحاجة النظام في أن يكون له حليف يمتلك هذا الامتداد. ويعتبر باسيل أن نيل رضى النظام السوري مقابل الحصول على عدم ممانعة دولية على شخصه، بإمكانهما إيصاله إلى رئاسة الجمهورية.
دولياً، يراهن باسيل على فرنسا، وعلى العلاقة الممتازة بينه وبين مسؤوليها، من أجل تحسين صورته وعلاقاته مع الدول الغربية. وكان قد استبق الجميع في مبادرته تجاه روسيا وزيارتها، مستنداً إلى منطق التوازنات الدولية، التي بإمكانها أن تتيح له فرصة الوصول إلى رئاسة الجمهورية، بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون. أميركياً، كان باسيل يعتمد على الحريري في تحسين صورته، وتوفير علاقات واسعة له، لكن ربما مساعي الحريري لم تصل إلى الهدف الذي يرجوه باسيل، فكان لا بد من الضغط عليه.
ابتزاز الحريري
لا شك أن الخلاف بين الحريري وباسيل والذي انعكس مؤخراً في حرب التصريحات والتسريبات، نابع من أكثر من سبب. وتلتقي عند جملة اعتبارات، يسعى باسيل عبرها للضغط على الحريري. داخلياً هناك اختلافات عديدة حول التعيينات العسكرية وغير العسكرية. كما أن الخلاف حول بواخر الكهرباء لا يزال قائماً. إذ أن باسيل يسعى إلى التجديد للبواخر، بينما الحريري يرفض ذلك. ويتوسع الخلاف ليطال ملف اللاجئين السوريين. فباسيل تقصّد إطلاق النار على الحريري وتخوينه في ملف اللاجئين، في لحظة مشاركته بمؤتمر بروكسل. وصل الأمر بباسيل إلى رفع سقف تهديداته، بأنه لن يكون هناك حكومة ما لم يكن هناك توافق حول رؤية التيار الوطني الحرّ للتعاطي مع الملفات.
من الواضح أن الضغط يستمرّ على الحريري بالاستناد استحقاقات، أولها ما يتعلّق بمؤتمر سيدر. وهناك من يعتبر أن ثمة ابتزازاً يتعرّض له الحريري، في ملفات مؤتمر سيدر، عبر التلويح بتعطيلها، ما لم يتخذ موقفاً واضحاً ومسانداً لحزب الله بمواجهة العقوبات. وهنا يعتبر "مستقبليون" أن باسيل هو الذي يشكّل رأس الحربة في هذا الضغط على الحريري.
لن يصل هجوم باسيل على الحريري إلى النهاية. هو لا يريد إحراق السفن، لأن هذا الخيار سيؤدي إلى إضعافه. هو يريد الضغط في سبيل الإمساك بكل الحبال. هو لا يناسبه أن يتعارض مع الحريري ويتحول حزب الله إلى وسيط بينهما، فما يريده العكس تماماً، أي أن يستمر هو في لعب دور الوسيط بين الحزب والحريري. أما رئيس الحكومة، فلن يكون أمامه خيارات واسعة، فهو سيحاول التمسك بموقعه كرئيس للحكومة، وبأنه الذي يتخذ القرارات. لكن أيضاً ليس لديه أفق في الذهاب إلى مواجهة واسعة أو حادّة مع باسيل. ما يعني أن استمرار النقاش سيبقى حول الصلاحيات، ولن يتطور إلى فرط عقد التسوية. فكما باسيل أسير طموحه الرئاسي، فإن الحريري أسير إنجاح مؤتمر سيدر والحفاظ على موقعه في رئاسة الحكومة. ولذلك سيكون الحريري الأكثر حرصاً على عدم تدهور الأمور.
الرجلان يتقاطعان في مصالح مشتركة، مع فارق أن باسيل يتمتع بهامش مواجهة أوسع، لأن ظروف الحريري أصعب وحاله أشد ضيقاً.