عندما قال الممثل الأميركي الخاص لإيران برايان هوك إن إيران تريد تحويل العراق إلى محافظة إيرانية، في هامش تصريحه على زيارة الرئيس حسن روحاني ونتائجها، فمعنى ذلك أن الولايات المتحدة ما زالت في مرحلة قراءة الدور الإيراني في العراق واحتمالاته ومآلاته المستقبلية، بما يوضح فكرة الرئيس دونالد ترامب عن سياسة ترصين القواعد العسكرية بهدف مراقبة أنشطة النظام الإيراني.
تطمينات أطلقها رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي بعد تلقيه اتصالا من وزير الخارجية الأميركي جورج بومبيو تفيد بأن واجبات القوات الأميركية المتواجدة على أرض العراق محددة فقط في الحرب على تنظيم داعش، وبهكذا مناوبات حراسة من النظام السياسي تمرر أحلام روحاني بهدوء ومجاملة وتطمينات من ذات الدولة العظمى التي تفرض العقوبات وتشددها على إيران.
ثمة تساؤلات عن العلاقات بين حكام العراق والنظام الإيراني ومدى حميميتها بما يفسر لنا الارتياح البالغ في اللقاءات التي بدت وكأنها حفلات تعارف تحت عناوين متباينة بعضها مفاوضات رسمية وأخرى توقيع على تفاهمات تبدو محسومة. في كل الأحوال يفترض أن يطلع على نصها العراقيون ولو من خلال مجلس النواب.
الشبهات تتعلق بحجم الحرية في تصرفات من التقاهم روحاني أثناء زيارته، من الذين نزعوا فجأة من رؤوسهم ووجوههم وتصريحاتهم الكابوس الأميركي، أي صلاحيات الراعي الرسمي لنظامهم السياسي منذ كارثة الاحتلال التي جاءت بهم أحزاباً وحكاماً إلى أحضان السلطة والجاه والمال. لو ذهبنا إلى تفسير تلك الثقة بسبب غياب الدور الأميركي انطلاقا من استقلال القرار العراقي الذي عبر عنه فالح الفياض متحدياً بوقوف العراق إلى جانب إيران في التصدي للعقوبات الأميركية، لطرحنا الأسئلة في هذه الحالة على الجانب الأميركي في ما لو كانت لزيارة الرئيس الإيراني مضامين أخرى من التفاهمات أبعد من أرض العراق المزدحمة بقلق المشاريع الدولية والإقليمية، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء من رغبة العراق في أن يكون نقطة التقاء في المنطقة، وليس منصة للعدوان على دول الجوار.
الاستعراض الإعلامي وما لحق بالزيارة من قراءة في فصول رواية الليل والنهار للمقارنة بين وصول طائرة الرئيس الأميركي إلى قاعدة عين الأسد ليلاً وسط مخاوف أمنية أميركية معلنة، وما أرادته إيران باستغلالها واستثمارها زيارة روحاني إلى العراق بوصول طائرته مبكرا في صباح اليوم الأول، ثم التوجه للمراقد الدينية في منطقة الكاظمية وقبل أي استقبال رسمي.
ينطوي ذلك على تلميح عابر لما تعنيه هذه الزيارة الشخصية لروحاني إلى منطقة الكاظمية، وهذا أمر لا ننكره على مستوى العقيدة، لكن زيارته كرئيس لنظام سياسي حققت أهدافها في توصيل رسالة مهمة إلى الجانب الأميركي من أن القاعدة المذهبية التي يستند إليها النظام الإيراني تتفوق على أية قاعدة عسكرية تتحصن فيها القوات الأميركية أو تنطلق منها.
البعد الآخر هو التصيد في الأثر الشعبي الطائفي عند العراقيين والذي كان بعضا من نتائج الاحتلال الأميركي بما أسفرت عنه الصراعات من حرب أهلية تداخل فيها التهميش والإقصاء والاغتيالات والإرهاب بغطاء من نظام المحاصصة الطائفية والسياسية بعد تفشي وباء المشروع الإيراني.لكن الأوضاع بعد سنوات طويلة من سيطرة الأحزاب الإيرانية تدهورت إلى حدودها القصوى التي أصبح معها المواطن على تماس مع الفساد المالي والإداري بنقص الخدمات وزيادة نسب التلوث والجفاف وانتشار الميليشيات وتهريب النفط والمخدرات وتنامي التدخلات الإيرانية على الحدود في قضايا قطع تدفق مياه الأنهار أو الطاقة أو مشكلة مياه البزل. نتجت عن تلك السنوات يقظة تمثلت في حركة الاحتجاجات وحرق القنصلية الإيرانية ومقرات الأحزاب الطائفية وصور الخميني وخامنئي.
زيارة الكاظمية في بداية نشاطات روحاني في العراق وختامها بلقاء المرجع علي السيستاني الذي تداول مع الرئيس الإيراني قضية حصر السلاح بيد الدولة بكل ما تعنيه هذه العبارة من هيمنة إيران على الميليشيات. رغم أن إصدار فتوى من المرجع السيستاني بحل الميليشيات ومن ضمنها الحشد أمر منطقي لانتهاء مبررات فتوى الجهاد الكفائي، أي إننا بصدد تفاهمات في إطار مختلف يصب في سياسة التهدئة والحوار أثناء زيارة روحاني التي انتهت بالعودة إلى طهران من مطار النجف، كنوع من المصالحة الطائفية مع أبناء الجنوب برسائل ضمنية عن ضرورة التحمل والصبر، وهي رسائل بذات الأسلوب والصياغة إلى الداخل الإيراني، وذلك ما يقلق في مستقبل تقاسم أعباء ومصير العقوبات الأميركية على إيران مع العراقيين.
وزير خارجية إيران المستقيل محمد جواد ظريف أكد على استمرار العمل باتفاقية الجزائر لسنة 1975 المتعلقة بشط العرب، والاتفاق على ذلك مع الجانب العراقي الذي يتحدث عن تعليق العمل بتلك الاتفاقية والرغبة في العودة إلى الأوضاع قبل توقيعها.
الاختلال في التصريحات يبين طبيعة المفاوضات. فالموقف من اتفاقية الجزائر موضع إحراج للنظام السياسي في العراق الذي أدان الاتفاقية لأنها فرطت في حقوق العراق في شط العرب تماشياً مع الإدانات الإيرانية لذات الاتفاقية لأنها موقعة من الشاه، لكن المصالح اختلفت وإيران تقرأ التحولات الإستراتيجية دون أن تفرط في النظام في العراق الذي تجتهد على إدامته من منظور أن ما تعطيه في أي مفاوضات إنما تعطيه لنفسها.
الإعلام الطائفي في العراق بعد زيارة روحاني يتحدث بخطاب شبه موحد رفضا لما يسميه عدم احترام الخطاب السياسي للنظام أو شخصياته، متذرعا بالترفع عن الخطاب الشعبوي في إشارة إلى انتقادات لاذعة للمفاوضات وما ستسفر عنه من أهداف ليست جديدة على المشروع الاستيطاني الإيراني، متناسيا أن الخطاب الشعبوي في العراق لا علاقة له ببرامج السياسة أو بنزوع فكري ليمين متطرف أو محافظ أو يسار متشدد أو معتدل في سياق تنافس انتخابي.
الخطاب الشعبوي بعد 16 سنة من عار الاحتلال يُقصد به الصوت الذي فقد قدرة التحليل والحوار الهادئ لأنه صوت الألم وهو يتنافس مع صفير الرياح والأمطار في مخيمات النزوح المتهرئة أو مدن الجوع والعطش والعشوائيات. خطاب هؤلاء الذين فقدوا معنى كرامة العائلة وكيفية حمايتها ورعايتها، صوت لم تعد له قدرة احتمال مجاملة زوار الليل أو النهار على حساب إنسانية أهلهم وحقوقهم في الحياة أو الوطن أو حقهم في شط عروبتهم.