مدد الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة ولايته الرئاسية الرابعة. قرر الرجل (أو من ينوب عنه) عدم الترشح لـ”العهدة الخامسة” معلنا أنه لم يكن أصلا ينوي الترشح لها. عزف الرجل عن الترشح لكنه أطاح فوق ذلك، وربما بسبب ذلك، بكل العملية الانتخابية، فتم بقرار منه تأجيلها إلى أجل بعيد غير مسمى.
كان من شأن انسحاب مرشح ما (وهنا بوتفليقة) ألا يؤثر ذلك على العملية الانتخابية التي تتم دستوريا بمن أقر المجلس الدستوري صلاحية ترشحهم. غير أن المنظومة الرئاسية التي أوحت بقرارات الرئيس المفاجئة ارتأت النهل من جسامة الحدث في البلاد في محاولة لإعادة التموضع بناء على الشروط الطارئة التي فرضها حرك الجزائريين منذ 22 فبراير الماضي.
على أن ما سمعه الجزائريون من قرارات مساء الاثنين الماضي، وعلى الرغم من طبيعتها اللافتة، تأتي ضمن سياق أرادت من خلاله الدائرة الحاكمة في البلاد الاعتبار بصدى الشارع الذي لطالما كان غائبا ومهمشا في السنوات الأخيرة. بدا أن انعطافة كبرى جرت منذ خطاب نائب وزير الدفاع رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح، في 5 مارس الجاري. حذر الرجل آنذاك من “أطراف تريد أن تعيدنا إلى سنوات الجمر”، بما استبطن تهديدا برائحة التهويل.
كان رئيس الوزراء (المستقيل) أحمد أويحي قد سبقه في نفخ ذلك التهويل بالدعوة الفطنة إلى الاتعاظ بتجربة سوريا وعدم نقلها إلى البلاد. لكن قايد صالح أعاد في 11 مارس تصويب لهجته وإطلاق خطاب ودود يذكّر بأن الجيش جزء من الشعب لا نقيضا له. ظهر أن “السلطة” لن تقفز في حلولها عن الأمر الواقع على نحو يمثل اعترافا بأن حكم البلاد وفق القواعد السابقة بات مستحيلا.
خاضت منظومة الأمن والعسكر حربا ضروسا ضد التيارات الجهادية خلال ما يطلق عليه بـ”العشرية السوداء” في تسعينات القرن الماضي. كانت تلك المنظومة هي التي تحكم الجزائر منذ انقلاب الرئيس الراحل هواري بومدين. تقبض تلك المنظومة على مفاتيح البلاد في كافة المجالات (اقتصاد، ثقافة، إعلام… إلخ)، وهي التي تنتج الواجهات السياسية التي تطل على الجزائريين، على شكل رؤساء وحكومات ودوائر إدارة، وتمثل البلاد أمام المجتمع الدولي. أتت هذه المنظومة بكافة الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم منذ رحيل بوتفليقة، وهي التي أبعدتهم بطريقة أو بأخرى (قتل الرئيس محمد بوضياف في 12 يناير عام 1992 في ظروف ما زالت غامضة ملتبسة على يد ملازم في الحرس الرئاسي).
استدعت منظومة الحكم عبدالعزيز بوتفليقة بعد عقود اختار فيها الرجل أن يبقى خارج البلاد ليصبح رئيسا للجزائر عام 1999. أعادت تلك المنظومة الاعتبار لأحد الرجال الأوفياء لبومدين في عهد ما قبل التعددية، حين كان الحكم حكرا على حزب واحد (جبهة التحرير الوطني) يختلط داخله العسكر بالسياسة. كانت منظومة العسكر التي أنهت بالقوة ظاهرة التيارات الجهادية، تريد “تصريف” ذلك في السياسة وتطبيع انتصارها داخل منظومة حكم كاملة.
أجاد بوتفليقة ذلك بما يتمتع به من خبرات وما يمتلكه من كاريزما تاريخية لتوحيد الجزائريين. وعلى قدر أهمية هذا الهدف وما أحاط به من بروباغندا طوباوية، إلا أن تحقيقه لم يكن صعبا، ولم يكن هناك أي قوى قادرة على معارضة نهج الرئيس ومراميه.
أصيبت الجماعات الجهادية بهزيمة نكراء وباتت معزولة فيما فلولها تتحصن بعيدا في الجبال. لم تملك التيارات السياسية، بما في ذلك تيارات الإسلام السياسي (حمس والنهضة وغيرها) أي خطاب متباين عن خطاب الحكم، في وقت بدا فيه الشارع منهكا من عشرية دموية يذهب البعض إلى إطلاق “الحرب الأهلية” عليها كوصف متنازع عليه.
كان على بوتفليقة أن يقوم بمهمة محددة أوكلت إليه من قبل منظومة العسكر وأجهزة الأمن. لكن الرجل بعد ذلك أظهر سلوكا مستقلا. راعى حساسيات تلك المنظومة بادئ الأمر، إلى أن خبرها، فاستطاع الانقلاب عليها والإطاحة بـ”آلهتها” من الجنرالات، وتمكن من تطويعها خدمة لاستراتيجياته. بدا هذه الأيام أن منظومة الحكم الحالية (عسكر وأمن وحزب وبيئة رجال الأعمال) تستعين بالرجل، أو باسمه وصورته، من أجل تحري المخرج المناسب لأزمتها وأزمة البلاد تحت سطوتها.
قام حكم بوتفليقة على قواعد أخذت في الاعتبار عوامل عديدة في الداخل كما الخارج. تمكن الحكم من تهميش المعارضين وتضييق مساحات الفعل للأحزاب أو جعلها تلعب دور التعدد تحت سقف الحكم. لم يكن عامل الشعب حاضرا في حسابات الحاكمين، حتى أن قلة الإقبال على الاقتراع في السنوات الماضية لم تكن تسبب أي إحراج لدوائر الحكم، ولا تُعتبر مسّا بشرعية بوتفليقة على رأس الدولة.
غاب الشارع الجزائري عن موجات “الربيع العربي” التي انطلقت أصلا من شمال أفريقيا، من تونس، وامتدت إلى ليبيا والمغرب وتوقفت عند حدود الجزائر. قيل إن هذا الشارع ما زال منهكا من عشريته الدموية، أو أنه اعتبر أن ما يمرّ به الآخرون قد مرّ بالجزائر دون أن يُحدث الأمر ضجيجا كونيا على ما فاض به حدث محمد البوعزيزي في تونس.
هذه المرة تحرك الشارع. هذه المرة فوجئ الحكم بما لم يتوقعه حين أمعن في الاستخفاف بعقول الناس وفرض بوتفليقة رئيسا لخمس سنوات أخرى بعد عشرين عاما قضاها على رأس الدولة. هذه المرة تنبه الحكم إلى وجود شعب في البلاد لطالما اعتبره تفصيلا هامشيا لا يدخل في الحسابات. هذه المرة اعترفت منظومة الحكم بجسارة الموقف بما يستدعي توددا للشعب واستدعاء لبوتفليقة، مرة أخرى، من مستشفاه في جنيف، ليُعلن باسمه مجموعة من القرارات التي تعتبر هزيمة نكراء لعقلية حكم تستدرج تغييرا جذريا يفتح الباب للجمهورية الثانية.
فشل “الربيع العربي” في نقل البلاد من طور إلى طور أفضل. بدت النتائج كارثية في سوريا وليبيا واليمن، وهي خاضعة للتقييم في مصر وتونس والمغرب. بدا أن الجزائر لا تمارس “ربيعها” ولا تريده استكمالا لربيع العرب، بل بالعكس بدا أن حراك الجزائر استخلص العبر من تلك التجربة، فلا الشارع طالب بإسقاط النظام ولا الحكم لجأ، كما توقع “العارفون” بشؤون الجزائر ومنظومة الحكم فيه، إلى الصدام مع هذا الشارع.
مدد بوتفليقة ولايته الرابعة. رسم بيانه خارطة طريق للحل: “ندوة وطنية” تقود إلى دستور يُستفتى الشعب بشأنه يقود إلى انتخابات. تلك الخارطة قد تستغرق أعواما أو قد تختصر وفق ما ستنتهي إليه المداولات الداخلية. تشبه ندوة بوتفليقة الوطنية ندوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي ابتدعها في بلاده لتفريغ حراك السترات الصفراء. في ذلك ما يبرر في الجزائر الحديث عن نفوذ الإليزيه في رسم خرائط الجزائر المستقبل. وفي ذلك من بدأ يتحدث عن ضرورة “تأطير” الحراك الشعبي على نحو ينتج قيادات يجيد النظام التعامل معها على نحو يفرغ الحراك من زخم عفويته المستند على غياب الرأس في ديناميته.
أطاح بوتفليقة بأحمد بويحى ليأتي بوجوه افترض أنها أكثر قبولا من قبل الجزائريين على نحو يقرّ بأن وجوها غير مقبولة وحضورها فجّ واستفزازي وُضعت في واجهة الحكم قبل ذلك، وعلى نحو يعترف بأن كل الإجراءات تتحرى “رضى” الشارع الجزائري وقبوله. والمشكلة أن كافة وجوه الحكم الحاضرة أو المستعادة مستنفدة في الذاكرة الجمعية لأهل البلاد.
يبقى أن الجزائر أمام امتحان عسير. والحكمة تكمن في التقاط اللحظة التاريخية وتوسل نقطة التوازن بين الممكن والمستحيل. لن يكون يسيرا أن يقبل الشارع الجزائري إسقاط الولاية الخامسة من أجل تمديد الولاية الرابعة. الأمر غير قانوني وغير دستوري وتعوزه فتاوى صعبة. “ترحلوا يعني ترحلوا” شعار رفعه الجزائريون عنوانا لحراكهم. لا يبدو أن منظومة الحكم راحلة، وقد يكون من الحكمة أن يجد الجزائريون، أنفسهم، معادلة صالحة لبلدهم تبعدهم عن أورام ربيع الآخرين.
يبقى أن الوضع الصحي لبوتفليقة يلقي ظلالا ثقيلة على خارطة الطريق التي فرضها، فإذا ما غاب فإن ذلك من شأنه تغيير مسارات الخارطة وإيقاعاتها.