ماذا نتوقع من النظام السياسي في العراق غير أن يكون ضمن المحور الإيراني بتوجهاته وخدمته ودعمه لولاية الفقيه في الأزمات أو امتدادات مشروعها؟ ذلك بعض من بديهيات عندما نعود لسنوات الحرب الإيرانية ضد العراق، وكيف كان حكام اليوم من النافذين في القرار السياسي يحملون بنادقهم ضد جيش وطنهم الأم، ويعذبون العراقيين في معسكرات الأسر.
الولاء للنظام العقائدي في إيران لا نحتاج معه لأدلة بعد أن سفكت الدماء وأطلقت النار من خارج الحدود وداخلها دفاعاً عن ثورة الخميني وصادراتها التي استهدفت أولاً العراق.
الجدل سيستمر بشأن زيارة الرئيس حسن روحاني إن كانت ستصب نتائجها في صالح إيران على حساب العراق، أو أنها ستثمر عن توقيع اتفاقيات في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة والصحة والمواصلات وتسهيل دخول الزائرين وهم بالملايين، مع ما يطرح من سيادة القرار الوطني الذي لا يتنازل عن حقوق العراق في مياه شط العرب.
المقصود هنا اتفاقية الجزائر للعام 1975 بما تعرضت إليه من إدانات أو إلغاء من هذا الطرف أو ذاك، أو قضايا الحدود الشائكة لأنها تتعلق بثروات اقتصادية هائلة من احتياطيات النفط في مناطق محددة قاتل عنها العراقيون بضراوة في معارك أسطورية لصعوبة الجغرافيا، كما في حقول مجنون وجزيرة أم الرصاص وغيرها من جبهات الحرب.
النظام الطائفي أراد أن يسوّق لزيارة روحاني في إطار التعاون مع دول الجوار الإقليمي بمقدمات يبدو أنها مدروسة، رغم ما تعرضت إليه الاتفاقيات مع المحيط العربي من انتقادات الإعلام الإيراني ومنابره، وصولا إلى اتفاقيات مفتوحة مع الجانب الإيراني وبعيدة المدى وعميقة الأثر تقيّد العراق، اقتصاديا وقانونيا واجتماعيا، بما يؤرخ لمرحلة عابرة لفترة العقوبات الأميركية.
توقيت الزيارة لا يسمح بتفسيرها على أنها رغبة عراقية أملت حضور الملا روحاني للبحث في قضايا معلقة بين البلدين كأزمة المياه وقطع الأنهار وترسيم الحدود، والإيرانيون بهذا الصدد أكثر واقعية من ساسة العراق وإعلامييهم عندما يصفون العراق بقناة أخرى لتفادي العقوبات. أي أن العقوبات دفعت بشدة للتحضير المسبق بوفود رسمية إيرانية، كان من بينها الدور الملفت لوزير الخارجية المستقيل، محمد جواد ظريف، في التفاهمات بين الكتل السياسية في العراق، ولعل اجتماعه المطول مع وزير خارجية العراق محمد الحكيم والذي استغرق 5 ساعات قبل يوم واحد من وصول الرئيس الإيراني يؤكد حجم الملفات العديدة المطلوب حسمها أثناء الزيارة.
ما يغيب عن الحضور هو الوعي الجمعي لتلك القوى الخاضعة لإيران والتي تهيّئ نفسها ببرمجة انفعالية رابطة مصيرها الإنساني والسياسي بمستقبل نظام ملالي طهران ولا تكتفي باندماجها الشخصي المعلن، إنما تلهث لرهن العراق بمواقفها ظنا منها أن ذلك يعزز من بقائها في السلطة ويقلل من فرص العراقيين على محاسبتها.
حضر روحاني وثمة ثورة مضادة من الملالي مدعومة من الحرس الثوري تطالب بالعودة إلى التمسك بتعاليم ولاية الخميني وخامنئي في تقييم لحركة الاحتجاجات وما تتسم به من مفاهيم علمانية في لعبة يتقاذف بها النظام الشعوب الإيرانية بين فريق أصولي وآخر إصلاحي، وهو ما يجري في العراق أيضاً وإن اختلفت الشكليات في كل مرة، أو بالأحرى في كل صيف، حيث ترتفع درجة الحرارة والغضب من نقص الخدمات، لكن الكرة في العراق تتقاذفها أكثر من جهة ليس أولها ولا آخرها الميليشيات.
الهرب إلى العراق من العقوبات، ومن الأزمة والصراع الداخلي، لإيجاد الحلول السريعة التي كانت مطروحة على جدول الأعمال بإنشاء مصرف مشترك ومنطقة حدودية مشتركة، وتكليف العراق بتسديد الديون الخارجية لإيران مقابل “ديون” مترتبة على العراق لاستيراده الطاقة الكهربائية والغاز ومختلف السلع من إيران.
العراق تحت غطاء الديون سيموّل الأذرع الإيرانية وإعلامها، وسيتكفل بسداد النقص في الموارد، وذلك بات واضحا بعد تفاقم تسريح العاملين في القنوات الفضائية وعددهم بالعشرات وتراكم الرواتب غير المسددة التي تشمل حَمَلة السلاح الذين سيزجّ بهم في حشود الميليشيات الحكومية، أو الاستغناء عن بعضهم تحت حجة المكاتب الوهمية ومكافحة السلاح المنفلت.
في العراق أكثر من دولة، وأي مفاوضات استراتيجية مع إيران هو تسليم لمقدّرات العراق لمشروع طائفي وعقائدي رسمته إيران وأكدت عليه زيارة الملا روحاني الذي توجه مباشرة من المطار برفقة السفير الإيراني والوفد المرافق له إلى منطقة الكاظمية ببغداد لأداء مراسم دينية لها ما لها وعليها ما عليها في تأكيد البعد الطائفي لاحتكار السلطة في العراق وطبيعة العلاقات مع إيران.
علاقات يتداعى معها الوطن والاستقلال وأوهام السيادة، والتعامل الإعلامي والحكومي مع هذا السلوك بصمت ودون إشارة، يوضح لنا ماهية النظام السياسي وتبعيته للملالي دون أي تأويلات إضافية لطروحات العلاقات التاريخية وما تعنيه في ظل استقبال أقل ما يقال عنه إنه انحناءة للغزاة والمحتلين وهدر لكرامة العراق ودماء الشهداء.
استعمل الرئيس برهم صالح مقولة “نحن محظوظون بالجار الإيراني” وكرّرها مع تصريحات أخرى أكدت الإصرار على مستوى العناد مع إرادة شعب العراق وتاريخ معاناته قبل وبعد الاحتلال الأميركي من نظام الملالي، ويكفي الحليم أن تستعرض له فضائل ولاية الفقيه كنظام صديق أو كجار في خدمة العراقيين، حتى تتلقى منه إجابة تشهد عليها دماء المتظاهرين في البصرة. لا أحد من أبناء العراق يتشرف بأن يستقبل أي مسؤول إيراني، فالأمر يرتبط بذاكرة ترفض نتائج الاحتلال الأميركي ونظام المحاصصة وتوريط العراقيين في حرب التجهيل والطوائف والهويات والإرهاب.
حتى المرجعية المذهبية في النجف التي أصدرت فتوى الجهاد الكفائي وكانت سبباً في تشريع قانون الحشد الميليشياوي واستقبلت العديد من الوفود السياسية والأممية، كانت تتحاشى لقاء الوفود الإيرانية لما تسببه لها هذه اللقاءات من سوء فهم في علاقتها مع مقلديها، أو مع كافة العراقيين الذين بلا شك يرفضون المشروع الإيراني ودوره في تدمير وتراجع بلادهم.
إيران بنظامها الحالي تدرك أن لها في العراق من يعينها على حساب مصالح العراقيين في البحث عن دفاتر قديمة تجلب لها المزيد من الموارد المالية كفتح أسباب الحرب ومن بدأها لتطالب بقائمة التعويضات وسط مآرب وذرائع وشهادات مزوّرة أصبحت متاحة لمن يحكم العراق.
أسباب السعادة والفرح كثيرة لدى الساسة في استقبالهم لروحاني، وهي عكس أصدائها في الشارع العراقي الذي يستعد لمواجهة نزيف ثرواته وعقوله ودمائه، وأيضا لمواجهة إرهاب ولاية الفقيه ومن يمثلها في حكم العراق من الذين وضعوا كل بيضهم في سلة المحور الإيراني محاولين بيعه في سوق تتدافع فيه وتزدحم الأقدام الأميركية وغموض الرؤية المقبلة، ودون أي قراءة متعقلة لنتائج الاستغفال المستدام لشعب العراق.