"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" الحجرات - 13 -
يمكن القول أن تجسيد الحوار في حياتنا الاجتماعية هو في جانبه الروحي والمعرفي إحياء لعقل الإنسان وقلبه لكن فكرة الإحياء في التعاقد الاجتماعي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحديد مفهوماتنا عن معنى موت المجتمع وحياته في ضوء ضبط المسافة بين دنيا التوحش وسفك الداء وعالم القيم والأخلاق , كذلك فإن الحوار الملتزم يربط أغراضه ورسالته بتعاهد الأمانة الإلهية التي حملها الإنسان من دون أن يلتفت إلى شرطها الأول في الاستقامة على احترام الإنسان لذاته في وعيه الأخلاقي لمسألة الحرية وامتدادها الاجتماعي في الواجبات والحقوق.
وحتى لا نتورط بخيانة الأمانة تحت شعارات التنازع والتقاتل باسم الدين يلفتنا القرآن الكريم إلى تحريم الإكراه على الدين وتسلط الدولة الدينية واحتكار المعرفة والاجتهاد بدعوى امتلاك الحقيقة المطلقة التي أنتجت فقه الاستبداد على مستوى الفكر ومستوى السلوك لتغدو الشريعة نقيضاً للأمانة الربانية في استخلاف الإنسان على الأرض أوليس الباحث عن الحقيقة أقرب إلى روح الأمانة الإلهية من الملتبس بالشريعة التباساً يفصلها عن المعرفة والأخلاق، وها هنا يأتي الحوار لا بوصفه نموذجاً أخلاقياً للتعاقد الاجتماعي فحسب بل نموذجاً تطبيقياً للأسس التي تقوم عليها فكرة المسؤولية والشهود على الأمانة تعكس الفوضى الدينية الراهنة أشكالاً من الاستخدام المراوغ للخطاب الديني بلغة ساخرة متهكمة تعتبر لعن الآخر المختلف وتكفيره شرطاً في صحة المعتقد الديني مما أدىّ إلى مفارقات وتقسيمات تجافي المعنى الجوهري للدين من جهة , وتناقض المغزى الجوهري لفلسفة الأمانة الإلهية من جهة ثانية فماذا يبقى من مقاصد الشريعة كلها إذا أصبح تدمير العلاقات الإنسانية وظيفة شرعية في خطاب بعض المتكلمين باسم الدين وخطاب الفاشلين في إقناع غيرهم بصواب أفكارهم وعقائدهم فيما الضحية هو هذا الإنسان الذي وقعت جرائم الظلم السياسي والقمع الديني بمصادرة حقه في التفكير وحقه في الحوار . لا حياة إنسانية على الأرض بدون حوار ولن يكون الدين ديناً ولا الشريعة شريعة إلا إذا كانت نابضة بقيم العدل والإحسان.
ولا يمكن فهم التناقضات البشرية من دون حوار يرد الاعتبار لبصيرة الفصل بين ما هو صلاح وفساد، لذلك كانت الهداية القرآنية تدعو بصريح دعوتها إلى نقد التدين المتسلط على الناس وكسر مركزية أدعياء الدين في الذين زعموا أنهم أولياء الله.
إن أخطر ما في ظاهرة التدين الإرهابي المتسلط هو تشويه المضمون الإنساني للأمانة الإلهية وضرب مشروعها الأخلاقي الرحيم وتعطيل ما تصبو إليه من مهمات التفتيش المعرفي الدائم عن صورة الأرض الكاملة بكمال الإنسان.
كذلك يبدو لي أن الظلامية الدينية والسياسية لن تسمح بإنتاج وعي جديد للتدين لأنها تخشى من أن يؤدي الكشف عن مرجعية العقل في الدين إلى سقوط مشاريع الجهل والخرافات التي يستند عليها خطاب الإلغاء والإقصاء والتكفير في تكريس الصراعات بين المذاهب والطوائف الدينية , ولن نستطيع مواجهة القطيعة والفساد في المجتمعات الدينية إلا في شرطين:
أحدهما: هو الحوار بوصفه أمانة إلهية
وثانيهما: المباشرة المتخصصة بأوسع مراجعة نقدية لخطاب العنف والتطرف باسم الدين .
ويا حبذا لو تتسع هذه المراجعة لدراسة أطروحات وشعارات – التولي والتبري – لمعرفة الحقبات المختلفة من تطورها في تاريخنا السياسي والديني وصولاً إلى استخدامها داخل الدين الواحد والمذهب الواحد وتأثيرها في ولادة الفرق الإسلامية وهي مأمورة اليوم بإلحاح الأمر الجميل أن تعتصم بعروتها الوثقى وتبحث عن روابطها الأولى في إسلام ما قبل المذاهب وفي فتح هذه الروابط على روابط الإنسانية الكبرى لتقرأ بإمعان قوله تعالى : " إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ " الأحزاب 72 - -
كذلك يربط القرآن الكريم بين قضية الأمانة وقضية استخلاف الإنسان في الأرض استخلافاً قوامه عقل المعرفة وخصيصة الحرية وطريقها التعارف والحوار أي المسؤولية التي رسمتها القيم الأخلاقية لاحتمال تكاليف السماء , فلا يكون الإنسان ظلوماً أو جهولاً ولا يكون حمل الأمانة على صورة الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها .
إن ظاهرة القطيعة وانزلاقها إلى العنف والتطرف باسم الدين هي ظاهرة معاكسة للمبادئ التي تتضمنها الأمانة، ولا يمكن تحديث الخطاب الديني إلا في ضوء فكر إصلاحي يقوم هذه المرة على وجوب مناهضة الجهل والانعتاق من جميع أشكال التسلط باسم الدين ومقاومة الاحتلال الذي زرع في خاصرتنا لضرب وحدتنا المرتجاة وإفشال نهوضنا الواعد بالتجديد والتنوير .