بعضُ العراقيين المصابين بخيبة أمل يعيبون على شعبهم العراقي خمول همته وضعف وطنيته، واستكانته للظلم والظالمين، والفساد والفاسدين، رغم أن شعوبا أخرى لم تصبر على ربع الظلم الذي وقع عليه، وعلى ربع الفساد الذي نخر جسم دولته. فهو لم يرتفع إلى مقام الشعب المصري مثلا، والسوري والتونسي والسوداني وأخيرا الجزائري، في قوة الإرادة وعنفوان الوعي الوطني وروعة الصمود حتى نهاية الظالمين والفاسدين، وحتى خلاص الوطن والمواطن من شرورهم أجمعين. ولكنْ من الظلم للشعب العراقي أن نتهمه بأنه الأقل في الحمية والوطنية من أشقائه المصريين والتوانسة والسودانيين والجزائريين، وهو الذي عُرف عبر قرون، بأنه صاحب الدم الحار والعشق الجنوني للمخاصمة ومعارضة السلطان.
ولكن لو كان من يتسلط عليه حاكم واحد، كعمر البشير أو عبدالعزيز بوتفليقة مثلا، أو حزب واحد كالإخوان في مصر، والنهضة في تونس، والمؤتمر الوطني في السودان، لكان إسقاطه شربةَ ماء لدى الشعب العراقي، ولكان قتله شنقا أو حرقا أو سحلا في الشوارع، ولملمةُ حزبه وبعثرةُ نصفه في السجون، ونصفه الآخر في المنافي، في سبعة أيام، دون معاون ولا مناصر. ويضرب العراقيون الغاضبون مثلا على جبنه بصبره على صدام حسين وأجهزة أمنه ورفاقه البعثيين.
والحق يقال إنه كان في ذلك من المعذورين عليه، وذلك لأن القسوة التي وضعها الله في قلب الراحل أبي عدي وفي عقله وخياله لم ولن يَرزِق عمر البشير وبوتفليقة وزين العابدين بن علي وحسني مبارك بنصفها أو حتى بربعها. فهؤلاء جميعهم، لا يكونون أمام صدام حسين إلا هواة دكتاتورية ومستجدّين يافعين فقراء في الخبرة والكفاءة والشطارة في فن إسكات الشعوب وقمعها. وصدق أبوعدي حين خاطب القاضي رؤوف رشيد الذي حكم عليه بالإعدام قائلا له، وجها لوجه، وبصوت مجلجل “والله لولا أميركا لا أنت ولا أبوك كان يقدر أن يضعني في مكان مثل هذا”.
ويبدو أن الحكام الإيرانيين وحلفاءهم العراقيين الوارثين لدولة صدام حسين قد فهموا سر اللعبة، وتعلموا كيف يفعلون بالشعب العراقي لقتل روح المعارضة فيه ولترويضه، وتعويده على السكون مهما أنزلوا به من الظلم والخيانة والاختلاس.
فأول ما فعلوه هو أن أقنعوا بول بريمر بحل جيش الدولة العراقية الذي يكذبون حين يقولون عنه إنه جيش البعث وجيش صدام وليس جيش الشعب العراقي، ثم لملموا نُتفا من ميليشياتهم وصنعوا من أسوأ أشلائها جيشا جديدا، ولكنه منقسم على نفسه إلى عشرات الجيوش، وكل جيش منها يديره حزب أو ميليشيا أو حسينية أو زعيم انتهازي وخائن وعميل ولاؤه ليس لوطنه وأهله. فإذا ما جد الجد وفاض الكيل، وفقد المواطن العراقي صبره، وكسر جدران الزريبة التي حبسوه داخل سياجها، فلن يجد له جيشا يعينه على بلواه، ولا شعبا واحدا يهب معه ويعينه على تحقيق المراد. والأمثلة كثيرة.
فكم من مرة حاول فتيان عراقيون متنورون تقدميون أن يتظاهروا ضد النظام الفاسد الحالي ويشعلوا فتيل انتفاضة شعبية شبيهة بانتفاضة الشعوب الحية الأخرى، فقمعهم نظام الدكتاتورية الدينية الحاكمة الحالية بأقسى مما كان يفعل النظام القديم، ثم سكت الشعب العراقي عن ذلك مرة أخرى، وترك أبناءه يتامى يتساقطون تحت أقدام شبيحة الأحزاب الطائفية والعنصرية، بخناجرهم وكواتمهم التي لا ترحم.
فالشعب العراقي اليوم، عشرات متنافرة من الشعوب. واحد لهادي العامري، وآخر لقيس الخزعلي، وثالث لمقتدى الصدر، ورابع للسيستاني، وخامس للأخوين نجيفي، وسادس لأياد علاوي، وسابع لخميس الخنجر، وثامن لصالح المطلق، وتاسع لأحمد الجبوري، وعاشر لكاكه مسعود، وحادي عشر لورثة مام جلال. 11 شعبا كلُ واحد منها متربص بغيره من شعوب الوطن المنقسم على نفسه، إلى مستوطنات ومرابع لا تتوحد إلا أمام شبابيك البنك المركزي ومستودعات البطاقة التموينية والفضائيات المنافقة المملوكة كلها لجناب الحاج قاسم سليماني.
لدينا حكاما عراقيين منذ 2003، أذكى من بوتفليقة وعمر البشير، وأشطر في الشفط والفتك والاغتيال وقطع الأعناق والأرزاق والكهرباء والهاتف والإنترنت.
لقد ثبت بالدليل أن الذي دمر حياة الشعب العراقي وأعاده عشرات السنين إلى وراء ومزق وحدته وأضاع أمنه وبدد ثرواته وجعله مضرب مثل في الخنوع والرضا بالظلم والفساد، هو رجل الدين المنافق، وشيخ العشيرة الانتهازي، وحامل الشهادة المزورة الذين سطوا على السياسة، وعلى قيادة الدولة، وهم فاشلون وجهلة لا يؤتمنون.