منذ نحو السنة، بدأ «حزب الله» يتحدث عن محاربة الفساد على أنها مشروع سياسي داخلي له في لبنان. كان هذا الطرح واحداً من وعوده الانتخابية عام 2018، وتصاعد مؤخراً بتحوله إلى حملة منظمة؛ إعلامياً وسياسياً وبرلمانياً. فماذا يريد «حزب الله» من هذا الطرح الداخلي، لا سيما أنه يتصرف كقوة ناشئة من رحم معركة محاربة الفساد وليس حزباً رئيسياً في لبنان وشريكاً في السلطة منذ ما بعد اتفاق الطائف عام 1989؛ إنْ بطريقة غير مباشرة عبر شريكه في الثنائي الشيعي رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وإنْ بصفته شريكاً مباشراً عقب دخوله إلى الحكومات المتعاقبة منذ 2005، بل وتشكيله إحدى الحكومات منفرداً مع حلفائه بين صيف 2011 وربيع 2013 برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي.
1- إنتاج أجندة سياسية لما بعد حربه في سوريا:
تزامن طرح «حزب الله» ملف الفساد على أنه مشروع يشغل خطابه السياسي وإعلامه وجمهوره، مع «انتصار» بشار الأسد في سوريا. في ديسمبر (كانون الأول) 2017، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قاعدة حميميم العسكرية في سوريا، وفي خطاب عاطفي مثير أمر بالبدء بسحب القوات الروسية من سوريا، معلناً تمام المهمة وتحقيق النصر. سيتبين لاحقاً أن لحظة بوتين في حميميم لا تقل تسرعاً عن لحظة جورج دبليو بوش الشهيرة في 1 مايو (أيار) 2003 على ظهر حاملة الطائرات «أبراهام لنكولن»، معلناً عبر لافتة كبيرة أن «المهمة قد أُنجزت» وأن حرب العراق انتهت.
بعد زيارة بوتين، لم تعد التحليلات السياسية والاستراتيجية تقارب مصير الأسد، بل مصير سوريا ما بعد نجاة نظامه من السقوط.
ستتوالى الأدلة على ذلك؛ حين سيطرت قوات الأسد على درعا منتصف عام 2018، بعد أن كانت قد أمسكت بحلب في ختام عام 2016. ولئن بقي شرق سوريا بيد الأميركيين، رغم الإعلانات المربكة عن انسحاب أميركي مزمع، وبقيت أقسام كبيرة من شمال سوريا والعمق الاستراتيجي لإدلب بيد تركيا، وكثفت إسرائيل من استهدافها إيران في سوريا بالتفاهم مع موسكو، فإن ذلك قزّم «انتصار» الأسد ورواية «حزب الله» عنه، لصالح واقع جديد في سوريا عنوانه الصراع الجيوسياسي الكبير وأطرافه أميركا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل!
هكذا تزامن «انتصار» «(حزب الله) - الأسد»، مع ولادة واقع في سوريا جعل منهما مجرد قطعتين صغيرتين في ماكينة صراع هائلة تلعب فيها روسيا الدور الأبرز بتفاهمات عجيبة مع كامل بقية الأطراف.
أما بالنسبة لـ«حزب الله»، فقد بدت فداحة الأكلاف التي دفعها أكبر بما لا يقاس بالعائدات التي جناها من استثماره السوري. كل هذه السياقات غُيبت، ببراعة استثنائية، تحت عنوان مبتسر هو «الانتصار في سوريا» والقفز سريعاً إلى عنوان جديد يشغل جمهور الحزب هو «معركة محاربة الفساد» ورفعها إلى مصاف «التحرير» و«الانتصار على الإرهاب»، وتعطيل أي نقاش حول الحرب في سوريا وأكلافها ونتائجها!
2- إعادة إنتاج دور داخلي للحزب:
كما حيال جمهوره المباشر، كذلك حيال اللبنانيين الآخرين، يحاول «حزب الله» أن يجد لنفسه وظيفة سياسية داخلية، تترجم صفته التمثيلية التي حرص على تظهيرها في الانتخابات الأخيرة، مستحوذاً على أكثر من ثلثي الصوت الشيعي الناخب. فعلى خلاف أدائه بعد عام 2000 وانسحاب إسرائيل، وعزوفه عن ترجمة ما عدّه يومها انتصاراً له، داخل تركيبة الحكم، يبدو «حزب الله» بعد تجربته السورية راغباً في مكافأة نفسه على «انتصاره» بحصة أكبر في القرار السياسي والمالي والاقتصادي والاستراتيجي للبنان، مباشرة ومن داخل المؤسسات، لا بقوة الأمر الواقع لسلاحه... فـ«المقاومة» التي «انتصرت» ستحكم هذه المرة، أو ستحاول على الأقل.
3- لبنان أولاً:
يعرف «حزب الله» على نحو دقيق حجم الهجمة الدولية عليه والأميركية على إيران. ويعرف حدود قدرة النظام اللبناني على إيجاد المخارج له، وهو يعاني من أصعب محنه المالية، وأعلى مستويات القلق في بيئته المباشرة، والأوسع قليلاً، لا سيما بيئة البرجوازية الشيعية في لبنان وأفريقيا والخليج. أمام هذا الواقع لن يتردد «حزب الله» إذا اضطر، في الانقلاب الكامل في لبنان... على من يعدّهم امتداداً للهجمة الدولية عليه، عبر المحكمة الخاصة بلبنان، والعقوبات، ووضع لبنان التدريجي وغير المباشر على سكة التطبيع مع إسرائيل من بوابة النفط، وإن تنكبت روسيا واجهة هذا التطبيع نيابة عن لبنان!
أما تركيز الحملة على الرئيس فؤاد السنيورة، فلأن الحزب نجح في الإساءة إلى صورته ومن خلاله قد ينجح في الإساءة لكل تجربة الحريرية السياسية، مما يعني أنه في لحظة الانقلاب، إذا ما اضطر إليه، فيكون كمن ينقلب على عصابة من الفاسدين وليس على الشركاء السنّة في النظام السياسي. يسعفه في ذلك أنه نجح في إنتاج مجموعة سُنيّة نيابية لا غبار على شرعيتها السُنيّة، مما يمكّنه من الادعاء بأن السنّة فريقان:
فاسدون تجدر الإطاحة بهم، ووطنيون هم شركاؤه في إنهاء لبنان الذي نعرف.
والسنيورة، برأي الحزب، خلية نائمة للمجتمع الدولي، إذا ما دارت الدوائر وأمكنت عودته إلى رئاسة الحكومة في سياق هذه المعركة...
فلماذا المغامرة بعدم شطبه باكراً!