ما كان يبدو حتى الآن أنه مهزلة، مثيرة للسخرية والضحك، يتكشف يوماً بعد يوم عن تراجيديا مفجعة، تستدعي الحزن والبكاء، لا على الجزائر وشعبها فحسب، بل على الأمة كلها، التي توقف بها الزمن عند القرن الماضي، وما قبله من قرون بعيدة، ولا تستطيع العثور على ترجمة لمصطلحات بسيطة مثل الدولة والسياسة والسلطة والتطور الطبيعي لأشكالها وأدواتها.
الجزائر نموذج صارخ عن هذا الفشل، الذي يشهد واحداً من أغرب وأقسى مسرحيات العبث، ببلد عربي عريق، كان ولا يزال يمثل واحدة من أهم التجارب العربية ، والعالمثالثية، في تشكيل الهوية الوطنية وبلورتها في دولة مستقلة عن المستعمر الاجنبي..برغم الإفراط في المبالغة في الخطاب الوطني التي رفعت ضحايا حرب الاستقلال من ربع مليون الى مليون شهيد، وحولت هؤلاء الشهداء الى وسيلة لإبقاء الشعب الجزائري في الأسر طوال نصف قرن مضى.
إختزال الازمة الراهنة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة قاسٍ ومثير للشفقة في آن. الرجل شبه ميت او هو على الاقل في غيبوبة . هو لا يحكم ولا يطلب التمديد له في الحكم. لكن أحداً لم يعرف حتى الآن على الاقل أين هو مركز السلطة ومصنع القرار، أين هي الدولة والمؤسسسات. بلد عربي في حالة فراغ وضياع. ثمة مراكز قوى متعددة، متصارعة، تدور حول الجيش وجبهة التحرير، وما عداهما أشباح معارضة للمستقبل وأشباح إسلامية من العشرية السوداء، وما بينهما جمهور واسع من الشبان والشابات الذين بدأوا للتو رحلة البحث عن دور ومستقبل.
على المستويين، السلطة والعامة، ثمة غرائب لا يصدقها. من جهة يصر فريق من أهل الحكم على إستخدام جثمان بوتفليقة حتى النهاية، برغم ما يعنيه ذلك من مس بالمحرم الإنساني، ومن إساءة للثمانيني الذي لا يطلب سوى العفو ولا ينتظر سوى الرحمة.. ومن إهانة لبقية الخلفاء المحتملين، الذين يبدون اليوم عاجزين، خائفين، متربصين ببعضهم البعض، لا يجرؤن على تقديم مرشح بديل، ولا تخطر ببالهم مثلاً فكرة تقديم أكثر من مرشح ودعوة الناس الى الاختيار في ما بينهم.
أما على مستوى الجمهور فإن الاعتراض على العهدة الخامسة لبوتفليقة، هو أبسط المواقف وأسهلها، برغم إختزانه لموقف ملتبس من "عصابة السلطة" التي ليس لها تعريف واضح ومحدد، ولم يتضح حتى اللحظة ما إذا كانت الحشود التي تنزل الى الشوارع هذه الايام، تنادي الجيش بأن يحكم، أو تدعو جبهة التحرير ان تقدم البديل، او تطالب أحزاب المعارضة بأن تتقدم.. أو أنها تستدعي شبحاً آخر، او تنشد معجزة ما.
كأن الجزائريين يخرجون للتو من المخابىء والمعازل والكهوف ويتعرفون على السياسة ويمارسونها للمرة الاولى.
اللاعنف، هو المؤشر والمكسب الجزائري الكبير. لكن الاكتشاف بأن بلداً عربياً جديداً يستعصي على التغيير بأبسط قواعده وشروطه، ومن دون تحولات ايديولوجية ثورية او إنقلابية، يبدو مؤلماً، خاصة وأنه يضاف الى إستعصاء سوداني، مصري، ويمني، بل وحتى تونسي. الحالة السورية إستثناء خاص، للقاعدة التي بشر بها الربيع العربي وبددتها السنوات الثماني الماضية. في سوريا وحدها كان التدخل الخارجي حاسماً في منع التغيير بالقوة العسكرية المباشرة، الغاشمة، الروسية والايرانية.
مع ذلك فإن وعود الربيع، حتى في سوريا نفسها، كانت ولا تزال تفتقر الى قواها الاجتماعية والسياسية المؤثرة. ما يجري في الجزائر والسودان، لا يمكن أن يندرج في ذلك الربيع، برغم ان الثورة الشعبية، الشبابية، الجزائرية والسودانية، بل العربية عموماً، كانت في الاصل أشبه بصحوة مفاجئة في وجه سلطة مستغرقة في النوم، وفي الوهن ، وفي التقدم في السن ، وبالتالي في العجز عن إدارة وتلبية متطلبات مجتمعات شابة، لا تتوقع أكثر من العدالة، والحرية.
الحدث الجزائري، والسوداني، وقبله التونسي والمصري، لا يشكلان إحياءً للربيع العربي. هما تذكير مفجع بأن ذلك الربيع لم يكن سوى سراب، نزاع مؤقت، بين سلطات هرمة لم تكسب معركتها مع الجيل العربي الشاب سوى لأن هذا الجيل يفتقر الى أي مؤهلات سياسية تمكنه من إسقاط حكامه المقيمين في غيبوبة..وتختصر الطريق على الشبان والشابات في الجزائر والسودان، قبل ان يفترسهم العسكر، أو ينقض عليهم الاسلاميون.