عندما رفع رئيس الجمهورية شعار الإصلاح ومكافحة الفساد، رحّبت بذلك كل القوى السياسية والحزبية العاملة على الساحة الداخلية، ما عدا الرأي العام اللبناني بغالبيته الساحقة الذي لم يقتنع كثيراً بجدية الطبقة السياسية في الذهاب بهذا المنحى إلى آخر المطاف، وتوقعوا ان تبتدع هذه الطبقة من الأسباب ما يُنسي اللبنانيين هذا الشعار بعدما أصبحوا في مكان آخر مشحون بالصراعات والمناكفات والنكايات وتصفية حسابات قديمة وجديدة.
ومع تشكيل الحكومة ونيلها ثقة المجلس النيابي، وقبل ان تلتفت إلى فتح ملف مكافحة الفساد، بدأت الصورة تتوضح وتبين ان الهدف الحقيقي للمتحمسين لمكافحة الفساد لم يكن القصد منه معاقبة الفاسدين الكبار قبل الصغار بقدر ما كان القصد هو الانتقام من الخصوم السياسيين بتشويه صورتهم تجاه الرأي العام، وتحميلهم وحدهم مسؤولية الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد، وإلا ما معنى ان يبدأ حزب الله حملته على الفساد بفتح ملف الحقبة التي حكمت فيها الحريرية السياسية والتركيز عليها دون سواها وتحميلها مسؤولية الفساد وانتشاره في كل شرايين الدولة، علماً بأن الحزب لم يكن ولا مرّة في عهد الحريرية السياسية، خارج الحكم بل كان شريكاً اساسياً ولا سيما في عهد حكومتي الرئيس فؤاد السنيورة والحكومات الأخرى، ووافق على السياسة المالية التي اعتمدتها هذه الحكومات ولم يعترض أو يرفع صوتاً ضد أي منها، وكان بإمكانه ان يعترض أو يرفض ويحول بالتالي دون استمرار انتشار الفساد، وهو القادر على فعل ذلك بحكم امتلاكه فائض القوة من جهة، وحق النقض من جهة ثانية، وبحكم قواعد اللعبة الداخلية والتوازنات الطائفية على كل الصعد، فلماذا انتظر الحزب ما دام واثقاً من انه ليس شريكاً في الفساد، طيلة هذه المدة ليعلن فجأة الحرب على الفساد ويحدد مسبقاً من هو بنظره الفاسد الحقيقي الذي اوصل وضع الدولة الى هذه الحالة المزرية التي بات المجتمع الدولي يتندر بها عندما يثار أي موضوع يتعلق بالفساد؟ الا يعني ذلك ان الهدف الأساسي من هذا الاندفاع لمحاربة الفساد هو الاقتصاص فقط من الحريرية السياسية التي نجحت في انتشال لبنان من الحضيض وإعادته إلى الخريطة الدولية كدولة نموذجية، أو في تشويه صورتها من خلال التركيز على الحقبة التي حكمت فيها وإغفال كل الحقبات الأخرى، انه سؤال مشروع لا سيما بعد الخطاب الذي طلع به أمس السيّد حسن نصر الله وسّدد مباشرة على الرئيس السنيورة وان لم يسمه بقوله من الطبيعي ان يقوم الفاسدون والسارقون واللصوص والناهبون بعملية دفاع عن النفس، والا يتركوا هذه المعركة تتعاظم لأنها ستضع النقاط على الحروف وتنتصر ويدفعون هم الثمن، إلى ان يقول وسيراهنون على تعبنا وخوفنا ولكن لا تراهنوا على ذلك لأننا لن نتعب، وسيحاولون التيئيس والتشكيك في ما نقوم به لاسترجاع المال العام وتصويرنا وكأننا نريد تصفية الحسابات، لكن هذا غير صحيح، مشددا على ان الحرب على الفساد هي من وجهة نظره مقدسة ولا تراجع عنها. فإذا كان الأمين العام يريد اكل العنب لا قتل الناطور كان الأجدى به ان يلجأ إلى الآليات القانونية الكفيلة بمحاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين وما أكثرها، بدءاً بقانون محاكمة الرؤساء والوزراء مروراً بقانون من اين لك هذا وقانون الإثراء غير المشروع وقانون كشف كل من يتولى المسؤولية عن أمواله قبل وبعد، وانتهاء بسن قوانين جديدة، أشار اليها الأمين العام في خطاب سابق تكون صارمة وتضع حداً نهائياً للفساد بدلاً من ان يُصوّب على جهة بعينها أو على حقبة سياسية بحد ذاتها.