قد تحشر التحليلات جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الخليجية داخل زاوية المسألة السورية. لا يمكن إغفال الأمر كإحدى أهم أولويات موسكو في الشرق الأوسط، لكن النظرة الاستراتيجية الروسية تذهب إلى أبعد من ذلك داخل ورشة دؤوبة لقضم المساحات التي تتراجع عنها الولايات المتحدة داخل المنطقة.
وفي لبّ الدينامية الروسية أن منطقة الخليج باتت ميدانا أساسيا لتقرير شؤون المنطقة، وأن التخاطب مع العالم العربي بات يتطلب وضع منطقة الخليج تحت المجهر الروسي.
يستطيع الوزير الروسي أن يعوّل على بعض الإشارات الخليجية التي أوحت بقرب التطبيع مع النظام السوري، وصولا إلى إعادة العضوية الكاملة لسوريا داخل جامعة الدول العربية. لكن لافروف كان يعرف قبل أن يجول على الدول الخليجية، أن تلك الإشارات لم تتطور ولم تأخذ أشكالا متقدمة، وأن الموقف الرسمي بقي ملتزما بما تكرره المملكة العربية السعودية من أن أمر ذلك مرتبط بالتسوية السياسية السورية. وبالتالي فإن لافروف، الذي حمل العنوان السوري، تحدث مع الخليجيين عمّا يهم روسيا كدولة مع بلدان المنطقة على مستوى المنافع المشتركة ومصالح موسكو الاقتصادية.
تعرف موسكو ما تملكه واشنطن من علاقات تاريخية عريقة مع كامل دول مجلس التعاون الخليجي. لكن روسيا تدرك أيضا أن المزاج الأميركي حيال المنطقة والذي كان مستفزّا للخليجيين في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما ولا يمكن اعتباره مطمئنا في عهد سلفه دونالد ترامب، أتاح لكافة بلدان النادي الخليجي تنشيط البديل الروسي في استراتيجيات الأمن والسياسة والاقتصاد.
ولئن يبقى البديل احتمالا فيما العلاقة مع الولايات المتحدة أصل لا استغناء عنه، استطاعت موسكو، مع ذلك، تحقيق اختراقات، يمكن اعتبارها تاريخية داخل هذه المنطقة مقارنة بالبرودة والجفاف اللذين طبعا علاقة المنطقة بموسكو السوفياتية قبل عقود.
لروسيا محاولات مشجعة في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة. طورت موسكو علاقاتها مع القاهرة وبغداد والخرطوم. وبدت البوابة الروسية القريبة بالنسبة للأردن ملاذا أكثر ثباتا ونجاعة من تلك الأميركية البعيدة. فيما بدا أن بيروت باتت تعتبر روسيا رقما صعبا في المنطقة، بحيث يلوذ رئيس الحكومة، سعد الحريري، بالخطة الروسية لإعادة اللاجئين دون غيرها، وتفتح موسكو أبوابها هذه الأيام لرئيس الجمهورية ميشال عون.
تعرف روسيا، جيدا، حساسية ملفات المغرب العربي، وتتحرك في مقاربة بلدانها آخذة بعين الاعتبار أهمية ملفات النزاع، سواء تلك المرتبطة بالمتاهة الليبية أو تلك المتعلقة بمسألة الصحراء التي تعطّل سبل الوّد بين المغرب والجزائر.
ومع ذلك ما زالت سياسة موسكو حيال منطقة الشرق الأوسط تجريبية فيها كثير من الاستعراض، قليل مما يمكن أن يعتبر تفوقا عما تملكه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في المنطقة من نفوذ.
تلامس موسكو المسألة الفلسطينية على نحو كيدي بحيث تستقبل فصائل فلسطينية في موسكو حين لا يذهب أي فلسطيني إلى مؤتمر وارسو، وتثير مسألة الإعداد للقاء محمود عباس وبنيامين نتنياهو بعد أيام على جولة جاريد كوشنر، صاحب “صفقة القرن” الشهيرة، على دول المنطقة. يبدو واضحا أن العالم الغربي يبقى المحدّد الأول لإيقاعات التقدم الروسي في الشرق الأوسط ومساحات نجاحاته.
يظهر ذلك جليا في سوريا، بحيث أن كل الجهد الروسي لا يستطيع قطف ثمار “الانتصار” الذي تعلنه موسكو ضد المعارضة لصالح النظام، وأن أمر ذلك سيبقى عسكريا لا يمكن “تصريفه” في السياسة، طالما أن الغرب لا يعترف لروسيا بصنيعها، ولا يفرج عن أي تمويل لإعادة الإعمار، قبل أن يلمس تسوية سياسية واضحة تنهي ورشة الدمار قبل الشروع بأي ورش جدية لإطلاق عجلة الإعمار.
بدا أمر ذلك واضحا. جرّبت موسكو مقاربة خاصة لها في ليبيا، لكنها سرعان ما استدركت صعوبة ذلك، وأن دولا بعينها، مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، لن تسمح لروسيا بأن يكون لها موطئ قدم في ليبيا خارج إطار ما يدبر لليبيا في عواصمها. ولا يمكن في الوقت عينه التصديق أن إرسال سفينة حربية روسية إلى شواطئ ليبيا في فترة معينة بإمكانه التأسيس لسياسة تعاند أساطيل غربية تجول في مياه المنطقة.
وعلى هذا فإن المغامرات الروسية البعيدة تبقى رمزية قابلة للتطور من ضمن الشراكة مع الغرب، فيما تبقى الورقة السورية هي أولوية الأولويات وهي الأقوى، ليس فقط في قيادة المآلات التي ستنتهي إليها الحرب السورية، بل بصفتها مناسبة لتعزيز الدور الروسي في الشرق الأوسط، كما تعزيز الدور الروسي في العالم أجمع.
يذهب وزير الخارجية الروسي إلى منطقة الخليج العربي بعد أيام على زيارة قام بها رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى إيران. قد لا يكون للحدثين علاقة مباشرة، ولكن السياسة لا يمكن قراءتها إلا من خلال ربط الظواهر ووصل الوقائع. لم يكن حدث زيارة الأسد إلى طهران إلا رسالة إيرانية قاسية إلى موسكو. أطل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على العالم الغربي منذ 2015 بصفته “قيصر” الأمر السوري والمحتكر لملفه.
بيد أن احتضان الأسد من قبل الولي الفقيه، بدا وكأنه رسالة لموسكو بأن أمر نظام دمشق الحقيقي هو في يد طهران، وأن ما تملكه إيران من نفوذ بنيوي متجذر في أوردة نظام دمشق منذ عقود، يأخذ نمطا عقائديا عنوانه مرشد الثورة في إيران، ولا يمكن أن تنال منه طموحات سيد الكرملين في موسكو. تعلم موسكو أن العالم، بأجمعه، لن يقبل مشروعا روسيا في سوريا إذا ما كان مقيّدا بشروط الحلف مع إيران.
تصارح موسكو العالم عبر ما قاله نائب وزير خارجيتها، سيرغي ريابكوف، من أن “لا تحالف بين روسيا وإيران” في سوريا. فإذا ما كان مطلوبا من روسيا أن تنضم يوما إلى الضغوط الأميركية الأوروبية التي ستصبح دولية ضد النفوذ الإيراني في سوريا، فإن إيران، التي تعرف حتمية ذلك يوما ما، تذكّر الحاكم في موسكو أن أمر ذلك سيكون مكلفا وربما عصيا، وله أثمان وجب على الروس أن لا يغفلوا عنها.
لا يعرف الخليجيون معادلة تُبقي روسيا داخل فضاء واحد مع العرب وإيران. وهم، في ما أعلنوه من رفض لأي تطبيع مع “سوريا الإيرانية”، يبلّغون موسكو، ووزيرها، أن على روسيا أن تحسم خيارها في هذا الشأن، ويلمّحون بأن العرب لن يرفضوا سوريا بالنسخة الروسية التي يرعاها اتفاق مع الغرب.
يتنبه لافروف نفسه إلى ذلك ويشكر السعودية على تشجيعها للمعارضة (التي التقى قيادتها في الرياض) بالدخول في التسوية السياسية. موسكو، نفسها، تبلّغ شريكيها في عملية أستانة، إيران وتركيا، أنهما في وضع لا يسمح لهما بإملاء الشروط، وأن العرب من بوابة الخليج، والعالم من بوابة واشنطن، لا يستسيغون تسوية إعمار أساسها تحاصص إيراني تركي في سوريا.
تشاطر الرياض موسكو في التمسك بـ”وحدة الأراضي” السورية. في ذلك أن السعودية والعرب يرفضون منطقة تركيا “الآمنة” في شمال سوريا.
لسان حال العرب، والخليجيين خصوصا، يقول إننا عدنا بقوة لتأكيد حضورنا في ميادين النفوذ الإيراني في المنطقة: العراق، ولبنان واليمن. ولسان العرب يقول طالما أن سوريا هي شأن روسي بامتياز، فإن مواجهة نفوذ إيران في هذا البلد هي شأن روسي بامتياز. عندها فقط نتحدث عن تطبيع وعن تمويل وعن إعمار!