يحترف بعض الفرقاء اللبنانيين ابتكار المعارك والاشتباكات التي تأخذهم نحو الحائط المسدود.
تحت مظلة شعارات رنانة وجذابة وديماغوجية يخوض هذا البعض معارك وهمية وإعلامية وأيديولوجية، فيما حساباتهم الفعلية تكمن في مكان آخر غير الذي يدعونه.
أبرز هذه المعارك – المسرحيات، التي تملأ الفضاء الإعلامي هذه الأيام، هي معركة مكافحة الفساد وإعادة النازحين السوريين إلى سورية.
بينما تبدو الأهداف من وراء هذين العنوانين نبيلة ووطنية وملحة في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الذي يغرق فيه اللبنانيون، يجنح رموز القوى السياسية التي تتصدر المعارك في شأنهما، إلى المزايدة ورفع الصوت وادعاء العفة والوطنية، في وقت ملّ الرأي العام اللبناني حديث هذه الرموز.
الصراخ حول مكافحة الفساد بات محل تندر وتشكيك وسأم لدى المواطن العادي من شدة الضجيج حول هذا الشعار الذي لا يخلو تصريح أو بيان من ادعاء تنكّب المهمة، وغرق أصحاب الصراخ في أدبيات مفتعلة يعمي بصرهم وبصيرتهم عن اكتشاف مدى غياب ثقة المواطن بالطبقة السياسية وممارساتها على مدى السنوات الماضية.
فالبعض يتفنن في الحديث عن قطع «دابر» الفساد للتغطية على أعماله الفاسدة المقبلة، والآخر لرد التهمة عنه، وسط جمهوره الذي يشهد على المظاهر اليومية لبروز النعمة على أفراد وقياديي حزبه أو فريقه الذين ادعوا التواضع الزائف؛ فالناس لم تعد تغرّهم الشعارات الخادعة لأنها تعرف مصدر غنى هؤلاء أكثر من الأجهزة القضائية والأمنية، وعايشتهم في قراهم وأحيائهم وحاراتهم، وتدرك بحكم الواقع اليومي، أين كانوا وأين صاروا، سواء من وراء التهريب أم الأعمال الانتهازية المستندة إلى النفوذ باسم خوض المعارك الكبرى ضد «العدو» أو لأجل الطائفة، أما الصالونات السياسية الضيقة، فتشهد على أخبار الصفقات التي يتفنّن البعض الآخر في عقدها تحت الطاولة وفوقها، باسم الدفاع عن حقوق أو استردادها، حتى أن غض النظر عن الفساد لدى فريق كان على مدى سنوات، رشوة مقابل موقف سياسي من قادة الفريق الثاني الغارقة رموزه في الصفقات، هذا أيضا بات يدركه المواطن العادي، وبات يلوم قيادة طائفته و«ربعه» على مبادلة الموقف السياسي بإشاحة النظر عن فساد الفريق المقابل.
لا تقتصر أضرار هذا المنحى في محاربة الفساد على التعمية على الهدف الفعلي المطلوب من وقف استنزاف المال العام، بل إنه يقضي على الأمل بـ«الفرصة الأخيرة» أمام لبنان كي يخرج من الحفرة الاقتصادية التي هو فيها، والتي توافرت في مؤتمر «سيدر» قبل سنة، بتأخر تطبيقه نتيجة التأزم السياسي، أو بسبب تعارض بعض قراراته مع النفعية المالية لهذا الفريق أو ذاك.
وعلى رغم أن وقف الفساد هو أحد شروط مد لبنان بالمال لتنفيذ مشاريع تخفض من عجزه تدريجاً حتى لا ينهار اقتصاده، فإن التشاطر اللبناني يسعى إلى تجنب تنفيذ بعض الشروط لضخ المساعدات. إنه انطباع مسؤولي دول تنتظر من الحكومة الجديدة خطوات معلومة التزم بها أطرافها بلا استثناء، وهذه الدول ملّت التذاكي اللبناني، في التعاطي مع الوضع الاقتصادي، أو مع الوضع السياسي الداخلي والإقليمي، إلى درجة بدأ يتسلل إلى غرف القرار في بعضها السؤال عما إذا كان من الأفضل ترك البلد ينهار اقتصاديا لعل الصدمة تحرك وعي اللبنانيين إلى خطورة بعض السياسات الداخلية والخارجية التي تتجاهل أبسط مبادئ قيام الدولة، والتي يدفن أصحابها رؤوسهم في الرمال.
صُنّف لبنان من بين الدول الأكثر فساداً مع دول عربية أخرى، بينها العراق وليبيا، تتشابه الدول الثلاث في الظروف السياسية غير المستقرة والحروب المتفاوتة فيها، والصراعات الفئوية التي تشكل الغطاء لاستشراء الفساد. الفارق بين لبنان وبين هاتين الدولتين أن نهب المال العام في العراق وليبيا ينهش من المردود السنوي بمئات بلايين الدولارات من إنتاج النفط في كل منهما، أما في لبنان فإن نهبه يتم من الاستدانة المتزايدة على أمل ظهور ثروة نفطية في بحره بعد سنوات.
أما الصراخ حول إعادة النازحين السوريين إلى بلدهم فإنه يمزج بين إلحاح هذه الخطوة للأسباب الاقتصادية الضاغطة والوطنية والوجودية، وبين الأمر الواقع في سورية.
التقارير الدولية تشير إلى أن من بين أكثر من 6 ملايين لاجئ موزعين على دول الجوار وأوروبا، مسجلين في قوائم الأمم المتحدة، هناك 300 ألف فقط يتوقع عودتهم إلى سورية هذه السنة، والفقر والدمار وغياب الخدمات الرئيسة وغياب الشعور بالأمان من أسباب الامتناع عن العودة بالنسبة إلى الملايين. الحلول والإعمار مؤجلة حكما. فنظامها والمعادلة الإقليمية فيها تستولد الحروب.