بريطانيا، وعلى ما يقول سفير دولة أوروبية مُطّلع على الموقف الفرنسي، امتعضَت من نقض ماكرون لقرارها بالدمج بين ما تسمّيهما الجناحين السياسي والعسكري لـ«حزب الله» واعتباره منظمة ارهابية، وقد جرى التعبير عن هذا الامتعاض بشكل مباشر في مراسلات عبر القنوات الديبلوماسية المفتوحة بين لندن وباريس.
واشنطن، يضيف السفير، لم تتفهّم الموقف الفرنسي، والإدارة الأميركية مغتاظة من ماكرون، وصنّفت ما قاله بالاستفزازي. وبحسب معلومات السفير أنّ «كلاماً جافاً» تمّ تبادله بين واشنطن وباريس. اظهر مقاربتين مختلفتين للخطوة البريطانية، وثبات فرنسا على موقف ماكرون، مقابل تبنّ كامل للموقف البريطاني واستغراب لِما سمّاها الأميركيون «مهادنة منظمة إرهابية تشكّل عامل قلق وتهديد دائم لاستقرار لبنان ودول المنطقة والعالم».
أمّا اسرائيل، يضيف السفير، فمستاءة جداً، وحكومة بنيامين نتنياهو لم تخفِ إحباطها ممّا سمّاه مسؤولون إسرائيليون «موقف الرئيس الفرنسي المخيّب للآمال. ونقلت ديبلوماسيتها الى باريس، استنكاراً لهذا الموقف بوصفه خطوة خاطئة تخدم «حزب الله» وتشجّعه على مواصلة «أعماله الارهابية» وفق المنطق الإسرائيلي».
لا يرى السفير الأوروبي في تعارض موقف فرنسا مع مواقف دول حليفة لها، تطوراً يؤثّر على العلاقات بين هذه الدول، مخالفاً بذلك ما وصفها بالتحليلات المتسرعة التي رسمت سيناريوهات سلبية حيال مستقبل هذه العلاقات ربطاً بالتباين حول القرار البريطاني. الّا انّ ذلك لا ينفي أنّ هذا التباين أوجَد حالاً من الفتور، إنما هو فتور عابر، أشبه بالفتور الذي تولّد حول قضايا أخرى، أكبر بكثير من القضية الراهنة، تَبايَن الموقف في شأنها من دون أن تترك أي أثر على علاقات تلك الدول ببعضها البعض. إذ انّ كل دولة تنظر إلى أي قضية بمنظار حساباتها ومصالحها. والمثال ساطع في ملفات عديدة كاجتياح العراق، والملف النووي مع ايران، وكذلك العلاقة مع ايران، ومسألة العقوبات التي تفرض عليها، وغيرها.
ولكن لماذا ذهبت فرنسا إلى مناقضة الخطوة البريطانية تجاه «حزب الله»؟
بالتأكيد، يقول السفير الاوروبي، انّ فرنسا ليست مغرمة بـ«حزب الله»، وهذا الشعور منسحب على كل دول الاتحاد الاوروبي، وثمة تاريخ طويل من الخلاف العميق مع هذا الحزب، والقلق موجود دائماً من سلاحه الذي تتعاظم قوته، وهذا ما صَرّحت به فرنسا في محطات كثيرة.
لكنّ سياسية فرنسا، بحسب ما يقول السفير، لا تقوم على الكسر، وإن كانت محطات كثيرة أوجبت عليها هذا الكسر لكنها لم تقدم على ذلك.
فباريس في تلك المحطات، والكلام للسفير المذكور، كانت تمارس نوعاً من الهبوط الاضطراري إلى أرض الواقع اللبناني، إنطلاقاً من إدراكها شدة حساسيته وحقيقة توازناته السياسية والطائفية المعقدة. وعلى هذا الاساس تُؤثِر فرنسا دائماً إبقاء خط التواصل مفتوحاً مع الجميع، سواء بصورة مباشرة او غير مباشرة. وذلك خلافاً لسياسة الكسر، التي من شأنها أن تقطع نهائياً وتقفل الابواب التي قد تفرض ظروفاً معينة العودة الى العبور منها لمقاربة أزمة ما. ثم انّ القطع، ومن ثم العودة الى اعادة الربط، مُكلف في السياسة وغير السياسة، ويسبّب إحراجات ترفع معنويات الطرف الآخر وتجعله في موقع المتقدم.
واشنطن، يتابع السفير، تعتمد سياسة القطع، وهو ما مارسته تجاه «حزب الله» ومنظمات أخرى. وليس سراً انها في أوقات معينة، مارست ضغوطاً متتالية على الاتحاد الأوروبي لوضع «حزب الله» على لائحة لارهاب، لكنّ دول الاتحاد، ويدفع من فرنسا، رفضت الخضوع للضغط، وليس سراً أيضاً أنّ اسرائيل وفي أوقات كثيرة خلال السنوات الماضية، ثابرت على توجيه اتهامات لدول الاتحاد الأوروبي بالاستمرار في سياسة النعامة ودفن الرأس في الرمال.
هذا مع العلم، والكلام للسفير الاوروبي، أنّ موقف ماكرون الاخير لم يأتِ بمضمون جديد، بل هو موقف يتقاطع في مضمونه، أو بالأحرى يتطابق مع موقف شهير للرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، نقله عنه السفير الاسرائيلي السابق في باريس ايلي برنابي، الذي كشف في بعض كتاباته انه ذهب يوماً لمقابلة شيراك بهدف إقناعه بتغيير موقفه من «حزب الله» واعتباره «منظمة إرهابية مسؤولة عن عمليات خطف وقتل واعتداءات ارهابية داخل لبنان وخارجه».
يقول برنابي انّ شيراك رفض حتى مجرّد الإصغاء له، ورد عليه قائلاً: «انّ «حزب الله» حزب سياسي لبناني، وهو جزء من النسيج الاجتماعي والثقافي في هذا البلد، وجزء من توازنه الطائفي».
فكما قلت، يقول السفير، مرّت علاقة باريس بـ«حزب الله» بحالات صعود وهبوط، منذ نشوئه في الثمانينات، كانت أقساها في تفجير مقر المظليين الفرنسيين في بيروت في العام ١٩٨٣ في عهد الرئيس فرانسوا ميتران. أمّا في عهد شيراك فمرّت بمحطات ايجابية، أبرزها في التدخل الإيجابي لشيراك في إنجاز «تفاهم نيسان» في العام ١٩٩٦، بالتنسيق مع الرئيس رفيق الحريري و«حزب الله». ولا يُنسى هنا دور وزير الخارجية الفرنسية آنذاك هيرفيه دوشاريت في توقيع هذا الاتفاق الذي كرّس حق لبنان بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي والعمل على تحرير أرضه. وأيضاً بعد اغتيال الرئيس الحريري في شباط ٢٠٠٥ وإصرار شيراك، رغم الظروف التي نشأت في لبنان آنذاك، على إشراك «حزب الله» في الحياة السياسية في لبنان. وجاء موقف شيراك هذا في ظل التوتر الشديد مع «حزب الله» على خلفية الدور الفرنسي في إعداد القرار ١٥٥٩ في العام ٢٠٠٤.
هذا الصعود والهبوط، استمرا في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيقولا ساركوزي، لكن مع ذلك استمر التواصل ودُعي «حزب الله» الى مؤتمر «سان كلو» الذي جمع الموالاة والمعارضة اللبنانية في العام ٢٠٠٧. وتبع ذلك زيارة نواب من الحزب إلى باريس، واستقبال نائب «حزب الله» علي فياض في الـ«كي دورسيه»، وايضاً في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند الذي أوفد وزير خارجية فرنسا في العام ٢٠١٣ إلى لبنان، حيث أجرى محادثات مع المكونات السياسية اللبنانية في قصر الصنوبر ومن ضمنها وفد «حزب الله»، الذي ضَم النائب علي فياض ومسؤول العلاقات الدولية في الحزب عمار الموسوي. وتلك الفترة شهدت لقاءات متتالية بين فرنسا والحزب، منها ما كان معلناً خلال زيارة وفد من لجنتي الخارجية والدفاع في الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ الفرنسيّين الى لبنان وإجراء محادثات مع نواب لبنانيين من بينهم نواب من «حزب الله»، ومنها ما كانت غير معلنة، في زيارات بعيدة عن الأضواء كان يقوم بها سفراء وديبلوماسيون فرنسيون لمسؤول العلاقات الدولية في الحزب.
في تقييم السفير الاوروبي بخلفيات الموقف الفرنسي: أنّ باريس تشعر دائماً بنوع من الأبوّة للواقع اللبناني، وتستاء بالتأكيد من تراجع هذه الأبوّة مقابل تقدم حضور ودور دول اخرى، وهي تسعى دائماً لاستعادتها، وعلى قناعة من أنّ حضورها في لبنان يستدعي منها الاتصال بكافة مكوناته السياسية. فضلاً عن انّ عينها دائماً على اليونيفيل وسلامتها، واستمرار فرنسا بتشكيل قوة أساسية فيها، وهذا يوجب ابقاء التواصل قائماً مع «حزب الله» الذي يقع على تماس مع اليونيفيل في أماكن انتشارها في الجنوب اللبناني.
من هنا، فإنّ هذه الأبوّة تجعل باريس تفرّق بين الجناح العسكري والجناح السياسي لـ«حزب الله»، وتعتبره مكوناً سياسياً له امتداده من لبنان الى سوريا وايران والعراق وصولاً الى اليمن، والى اماكن اخرى في العالم، يمكن البناء عليه في أي لحظة في الداخل اللبناني او على صعيد المنطقة.
ومن هنا ايضاً، كان حضورها في الهبة السعودية التي لم تكتمل للجيش اللبناني، وكذلك كانت حاضرة بكل ثقلها خلال أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض. ومشهود لماكرون دوره في «فرض» عودة الحريري عن الاستقالة، ومشهود لباريس أيضاً دروها في تسهيل تشكيل الحكومة الحالية.
في خلاصة التقييم، أنّ فرنسا ترى أنّ مصلحتها بعدم الكسر او القطع. أمّا بريطانيا بقرارها ضد «حزب الله»، فكأنها أطلقت النار على رجلها سواء في ما خَص حضورها في لبنان او في ما خَص دورها في منطقة الشرق الأوسط. وصار من الصعب عليها أن تستمر في قرارها، او ان تتراجع عنه؟