توحي العبارات والمصطلحات والصور التي تُستخدم لدى تناول السياسة في لبنان، بأنّ “الدولة” شيء يؤكَل. فهي “بقرة حلوب”، والقيّمون عليها “أكَلَة جبنة” و”يقتسمون الجبنة”، بحسب تعبير شهير للرئيس فؤاد شهاب، أمّا الرئيس بشارة الخوري فهو في التسمية الشعبيّة “أبو كرش”، فيما السياسيّ عموماً “يعرف من أين تؤكل الكتف”. هذا التصوّر، الذي أنتجه حلول الدولة كمصدر للتنفيعات، محلّ ملكيّات الأرض الكبرى التي تعرّضت للتفسّخ وتعدّد الورثة، باتت مصداقيّته أرفع من أيّ وقت سابق.
ولئن كان التحاصص الطائفيّ في الدولة وتنفيعاتها أشدّ آباء الفساد قوّةً، فإنّ “الطبقة السياسيّة” الفاسدة لم تبق دائماً هي نفسها. فقد تعرّضت لتحوّلات كثيرة فيما بقي “أكل” الدولة ثابتاً ثبات التركيب الطائفيّ نفسه. فمع انتخابات 1972 مثلاً، ووفقاً لما سجّله إيليا حريق في كتابه “من يحكم لبنان؟”، تعاظم دخول المتعلّمين والمدراء وأصحاب المهن الحرّة دائرة التمثيل السياسيّ. ومع الحرب وبعدها، حصلت انقلابات طبقيّة داخل الطوائف وزعاماتها، وصعدت وجوه كلّيّة “الجدّة”، خصوصاً في الطائفة الشيعيّة، وبدرجة أقلّ قليلاً في الطائفة المارونيّة، فيما انطوت صفحة “العهد القديم” ورجالاته. ومن خلال رفيق الحريري، ولكنْ أيضاً بعض رجالات المال الآخرين (عصام فارس، نجيب ميقاتي، محمّد الصفدي، فؤاد مخزومي، ميشال المرّ، فريد مكاري…)، دخل رجال الأعمال وكبار المتموّلين بقوّة إلى الحلبة.
ولوهلة، يبدو هذا التطوّر الأخير، بموجب نظرة حداثيّة وتقدّميّة مبسّطة، أمراً إيجابيّاً. فرجل الأعمال، في آخر المطاف، خير من العسكريّ ومن رجل الدين الهائج، طريقُه تفضي إلى نزع في الأدلجة، ومن ثمّ خفض في احتمالات العنف والحروب. بيد أنّ الواقع الفعليّ ليس كذلك. فموجات “الجديد” التي تعاقبت عزّزت “القديم” الطائفيّ أكثر كثيراً ممّا تحدّتْه. وليس قليل الدلالة أنّ الكثيرين من الزعماء “الجدد” وفدوا أصلاً من الميليشيات الطائفيّة، وافتقروا إلى كلّ مناعة حيال التأثير الخارجيّ في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، وهو الأمر “الطبيعيّ” لدور ذاك الخارج نفسه في تزعيم هؤلاء الوافدين. كذلك، وعملاً بالمنطق نفسه، فرزت حقبة الوصاية السوريّة من أثْروا ثمّ تحوّلوا إلى سياسيّين، انطلاقاً من أعمال توسّط لا عدّ لها، معظمها غير قانونيّ، بين الوصاية والموصى عليهم.
وعلى العموم فإنّ رجال الأعمال الجدد، بصغارهم وكبارهم، ممّن زاولوا السياسة، “موّلوا” الطائفيّة ومكّنوا الزبونيّة بقدر ما ثقّفَها” مَن دخلوا قبلهم من أصحاب المهن الحرّة الذين زيّنوا لوائح “التقليديّين” بـ “الشباب” وبـ “العلم والكفاءة”. وهذا فضلاً عمّا أحدثه رجال الأعمال أولئك من توثيق الارتباط بالمنطق الريعيّ لاقتصادات المنطقة، ومن إحلال اقتصاد السوق النيوليبراليّ، ومعه ثقافة السوق، محلّ اقتصاد رأسماليّ كان متنوّع القطاعات (في عهده، أي ما بين الأربعينات وأواسط السبعينات، عرف لبنان أعرض طبقة وسطى في المنطقة، وشهد نهضة صناعيّة مرموقة بمعايير الشرق الأوسط).
لقد تولّى “اتّفاق الطائف”، الذي اقتصر عمليّاً على إعادة توزيع حصص الطوائف وتطعيمها بـ “نخبة المقاومة”، تعميم هذه الحالات وتثبيت حضورها وتوسيعه في سائر الطوائف والمناطق. وكان من نتائج هذا التطوّر، الذي مثّل انتصاراً وتتويجاً للقيم القديمة، أنّنا بالكاد نجد اليوم سياسيّاً لا يورّث نجله. يصحّ ذلك حتّى في مَن صدروا عن أحزاب وتنظيمات راديكاليّة مناهضة للتقليديّين، وتالياً للتوريث، بل يصحّ في طامحين صغار بدأوا يورّثون قبل أن يمتلكوا ما يورّثونه.
وليس صدفة، في هذا المعنى، وبالتضامن مع وضع إقليميّ يشقّه الاستقطاب الطائفيّ الحادّ، أنّ كره الطائفة الأخرى والتأجيج ضدّها باتا أقوى العناصر في تعريف الزعامة وفي إدامتها وتصليبها، أي “شدّها العصب” وفق اللغة الشائعة. وهذا ما يُدخلنا في لعبة جهنّميّة: زعامات تستدرج الخارج إلى أدوار أكبر تصير هي، بالاستناد إلى ذاك الخارج، زعامات أكبر. فإذا أضفنا تراجع العوائد القابلة للنهب في السنوات الأخيرة، أكانت داخليّة المصدر أم خارجيّته، بات مفهوماً ذاك الاستكلاب الوقح على “الغنائم” الذي نشهده راهناً بإيقاع يوميّ. هكذا تكاد الزعامة السياسيّة تتعادل مع السرقة بلا زيادة ولا نقصان.
ومن دون الوقوع في تمجيد الماضي، فإنّ الحنين إليه يغدو مفهوماً ومبرّراً، تماماً كما هو مفهوم ومبرّر ذاك التوسّع العنصريّ للطائفيّة، وذاك الشعور بالعبث واللاجدوى المصحوب أحياناً بسينيكيّة قاتلة. فكأنّ حزب الله (بوصفه نهاية مُقتَرحَة للوطن والدولة)، هو العقاب الأليم على تاريخ من الخفّة والسخافة والارتزاق. بل ربّما جاز لنا أن نتساءل، مستعيرين تأويل سيغموند فرويد ومُحمَّلين بشعور عميق بالذنب: كم عدد الآباء البيولوجيّين أو الرمزيّين الذين قتلْناهم بحيث بتنا نزعّم علينا أوغاداً نرفعهم إلى سويّة الآباء المؤمثَلين؟