قد تكون رسالة التهديد التي نقلها نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، إلى الأفرقاء اللبنانيين، هي الأكثر وضوحاً من بين كل الرسائل التي تلقاها لبنان في الفترة السابقة. "الرسالة التحذيرية"، تصرّ أوساط لبنانية على وصفها بأنها عبارة عن تهديد واضح، لأن واشنطن لن ترضى للبنان أن يبقى على حاله من تسليم نفسه كاملاً لحزب الله. واللافت أن ساترفيلد أوصل الرسالة إلى كل الأفرقاء الذين التقى بهم، فلم يتحدث في كل لقاء بمنطق مختلف عن الآخر.
العقوبات والاقتصاد
المسار الأميركي أصبح واضحاً، ورسالة ساترفيلد بالغ الدلالة. إذ أشار إلى أن الضغط الأميركي سيزداد على إيران وحزب الله، وهناك حزمة عقوبات جديدة، ستفرض على الحزب، في المرحلة المقبلة. وهذا قد ينعكس على الوضع الاقتصادي في مرحلة لاحقة، خصوصاً ما يتعلّق بالمساعدات التي تقدّم إلى لبنان. حتى الآن، المسار الأميركي لا يتجاوز الإطار الإجرائي الضاغط على إيران وحزب الله، ولا يترافق مع رؤية سياسية واضحة لهذه المواجهة. وللزيارة غاية روتينية أيضاً، تتعلّق بالتمهيد للزيارة التي سيجريها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى لبنان، أثناء هذا الشهر. قال ساترفيلد كلاماً واضحاً، بأن الوضع اللبناني غير مقبول، ولا بد للبنانيين أن يتحركوا، لمواجهة توسع نفوذ حزب الله. لكن، من دون تحديد كيفية هذا التحرك، سوى بالإشارة إلى أن واشنطن ماضية بالتصعيد ضد إيران وحزب الله، وبالضغط على الدول العربية لمنع التطبيع مع النظام السوري، وبإجراءات سياسية لضرب نفوذ إيران في سوريا. الأهم في الرسالة، أن الأميركيين أنفسهم أفهموا الجميع أنهم لن يجترحوا سياسة محلية أو يبتكروا حركة داخلية. وهذه فحوى واضحة أوصلها أكثر من مسؤول أميركي، ومعناها أن إشكالية كبح حزب الله أو مواجهته ملقاة على عاتق اللبنانيين أنفسهم، ويختصرها البعض بالقول: "ساعدوا أنفسكم.. لنساعدكم". بمعنى أن واشنطن تحث اللبنانيين على تشكيل حراك مواجه لحزب الله ليتسنى دعمه.
البراغماتية الأميركية
تذكّر واشنطن بين فترة وأخرى بأنها حاضرة في لبنان. تحاول تشبيه الصورة بأن لديها "ممتلكات" في لبنان وتحضر لإطمئنان عليها، وعدم السماح بالمس بها. ولذلك لا تتدخل أو تتورط في حملة هجومية في الحيز الداخلي اللبناني، بمعنى أنها لا تبادر إلى المنازعة السافرة والهجومية، فأقصى الشعارات التي يرفعها الأميركيون لا تتعدى المنطق الدفاعي بمواجهة النفوذ الإيراني، بطموح لجم هذا النفوذ في لبنان.
والمعروف عن الأميركيين براغماتيتهم. وبما أن كل القوى اللبنانية تسلّم بسطوة حزب الله، فلن يكون هناك مانع لبناني يحول دون تسليم لبنان لإيران، خصوصاً عند الوصول إلى توافق أميركي - إيراني في صفقة كبرى، لا سيما إذا التزمت إيران عدم الحاق الضرر بالمصالح الأميركية والإسرائيلية.
البراغماتية الأميركية تنطلق من عدم وجود أي قوة لبنانية، قادرة على اتخاذ موقف لمواجهة سيطرة إيران وحزب الله على البلد. وهذه المشكلة في أساسها من تداعيات مشكلة الابتعاد العربي عن لبنان، وعدم وجود رؤية سياسية عربية لتفعيل هذه المواجهة، الهادفة إلى تحقيق التوازن.
حتّى الآن، ما من بوادر للوصول إلى تفاهم أميركي إيراني، خصوصاً أن إيران متيقنة من إستحالة حصول ذلك في ظل وجود ترامب بالبيت الأبيض. ولا سبيل لديها سوى الصبر، وانتظار عودة الديموقراطيين، للرجوع إلى مرحلة تشبه مرحلة التفاهم الأميركي الإيراني في عهد باراك أوباما.
موسكو قبلة العرب!
وفي ظل غياب أي مشروع لبناني أو عربي للمواجهة، ستكون إيران أكثر قدرة على جمع أوراق النفوذ والقوة على نحو تنتزع فيه من الإدارة الأميركية، عند أي لحظة تفاهم معها، إقراراً يوطد هذا النفوذ ويثبته، خصوصاً أن الحروب مستبعدة من مختلف الأطراف المتصارعة. وحتى لو كان الإيرانيون ضعفاء، بفعل الأزمات الاقتصادية والمعيشية، بتأثير العقوبات، لكنهم أقوى من العرب، في حضورهم العسكري ومشروعهم الأيديولوجي وبؤر النفوذ التي يحوزونها. ولذا، يجد العرب أنفسهم مضطرين مثلاً لتعزيز العلاقات مع موسكو، والرهان عليها، عسى تساعدهم في تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، بما ينعكس أيضاً على لبنان. وهذا أيضاً لا ينفصل عن تشديد ساترفيلد بضرورة انتظار الحل السياسي، لإعادة اللاجئين.
وهنا تمثّل موسكو، قبلة لمختلف دول المنطقة، الراغبة في تحجيم النفوذ الإيراني، لا سيما أن الاتفاقات الروسية الإسرائيلية سيكون لها أثمان، أولها تطور الدور المحوري لروسيا في المنطقة، ومن بينها لبنان. وهناك ما يشبه التسليم الأميركي بالسطوة الروسية على سوريا ومحيطها. وأي خلاف بين روسيا وأميركا ليس على نفوذ موسكو في سوريا بل في بعض التفاصيل، والترتيبات وحسب. وهذا ما يرتبط، بشكل مباشر وغير مباشر، بالدخول الروسي إلى لبنان، في مجالات متعددة على رأسها ملف النفط وترسيم الحدود.
في الظاهر، يبدو أن هناك اختلافاً أميركياً روسياً حول الدور الروسي الآخذ بالتعزز في لبنان، لكن في العمق، وفي البعد الاستراتيجي، هناك من يعتبر أن الاختلاف غير جدي، لا سيما أن بعض المعلومات تشير إلى إمكانية عقد لقاءات روسية - أميركية سعياً للوصول إلى تفاهم نفطي وحدودي بخصوص لبنان. وهذا سيكون أساسياً خلال زيارة بومبيو إلى بيروت، وبعدها زيارة عون إلى موسكو.