لم تكن خطوة أولى للمجلس النيابي بعد قرابة ثلاثة عقود من الزمن، ومن المماطلة والمماحكات السياسية، والهروب إلى الامام، ان يعمد إلى انتخاب أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء تطبيقاً لاتفاق الطائف، وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة إذ ما زال الفريق الأوسع من اللبنانيين، ينتظر من أرباب السلطة استكمال تنفيذ ما تبقى من بنود هذا الاتفاق، ولا سيما منها البنود المتعلقة بانتخاب أوّل مجلس نيابي خارج القيد الطائفي مع انتخاب مجلس شيوخ على أساس طائفي، اضافة إلى إقرار مشروع قانون اللامركزية الإدارية الموجود منذ زمن طويل في ادراج المجلس النيابي من دون ان يغفل المسؤولون مسألة إلغاء الطائفية في تعيين موظفي القطاع العام ما عدا المراكز القيادية التي احتسبها اتفاق الطائف على أساس التوازن الطائفي بين المسلمين والمسيحيين.
والسؤال الذي يتبادر إلى عقول اللبنانيين هو: هل يستكمل المجلس النيابي الحالي الخطوة التي اتخذها أمس على صعيد تنفيذ ما لم ينفذ بعد من اتفاق الطائف الذي أبرم قبل حوالى ثلاثة عقود من الزمن أم يستكملها بخطوات أخرى جريئة لتنفيذ ما تبقى من هذا الاتفاق الذي لا يوجد أحد من أهل السلطة الحالية الذين حكموا البلد منذ ابرام هذا الاتفاق الا وتحدث في العلن عن مدى الضرورة الملحة لوضع كل ما تبقى من اتفاق الطائف موضع التنفيذ لمعرفة مدى تناسبه من عدمه مع التركيبة اللبنانية التعددية والمبادرة في حال عدم التناسب إلى تعديل ما يجب تعديله في هذا الاتفاق، أم يكتفي هؤلاء بالخطوة التي اقدموا عليها لذر الرماد في العيون وايهام اللبنانيين بأنهم جادون في تنفيذ كل البنود التي نص عليها اتفاق الطائف والتي حالت ظروف استثنائية مرّ بها البلد ومنها الوجود السوري وامساكه بكل مفاصل الدولة مُـدّة لا تقل عن خمسة عشر عاما، حال خلالها دون تنفيذ ما تبقى من بنود اتفاق الطائف لحسابات خاصة به وبمطامعه في إبقاء سلطته في لبنان.
ان مجلس النواب بانتخابه أمس أعضاء هيئة المجلس الأعلى المتعلق بمحاكمة الرؤساء والوزراء، هو اعتراف صريح منه بأن لا استقرار سياسيا أو أمنيا لهذا البلد الا بتطبيق كل ما تبقى من اتفاق الطائف، سيما الشق المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية داخل المجلس النيابي واللامركزية الإدارية والشق المتعلق بحل كل الميليشيات بما فيها مقاومة حزب الله لأن الظروف المأسوية التي مر بها لبنان خلال الحرب الأهلية اقنعت الجميع بأنه لا يُمكن لهذا البلد ان يشهد أي استقرار إلا بعد ان يطبق المسؤولون فيه كل بنود اتفاق الطائف ومعه وثيقة الوفاق الوطني التي حولتها السلطة التشريعية إلى دستور يحتكم إليه الجميع عندما يواجهون أية أزمة في الحكم وإدارة شؤون البلد، وهو الآن مطالب بأن يكمل على وجه السرعة ما بدأه على هذا الصعيد بدلاً من التلهي بالقشور كما هو مطروح حالياً على الساحة الداخلية، فهل يتجرأ مجلس النواب على استكمال ما بدأه، أم يكتفي بهذا القدر القليل الذي أراد من ورائه ان يعطي صورة إيجابية للبنانيين والمجتمع الدولي الذي يراقب عن كثب خطوات المجلس النيابي على صعيد مكافحة الفساد، للتغطية فيما بعد على ممارسات هذه السلطة من دون الالتفات إلى القضية الأساس وهي تنفيذ كل بنود الطائف، ووضعها قيد التطبيق لمعرفة الصالح منها وغير الصالح والبناء مستقبلاً على هذا الأساس.
ما زال من المشكوك فيه ان يستكمل المجلس النيابي والقيمون عليه خطوة إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بخطوات تنفيذية أخرى تؤدي إلى إلغاء الطائفية السياسية من خلال انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي وإقرار اللامركزية الإدارية التي لا مناص منها، والانتقال من دولة يحكمها رؤساء الطوائف إلى الدولة المدنية العادلة والقادرة، وذلك لأن إلغاء الطائفية من شأنه ان يؤثر على زعاماتهم ويفتح الباب واسعاً امام الاتيان بقيادات جديدة تعمل على ترسيخ ما نص عليه اتفاق الطائف بالممارسة العملية وليس بالتنظير كما هو واقع الحال في ظل وجود الطبقة السياسية الحالية.
من الواضح حتى الآن ان رئيس الجمهورية ليس في وارد رفع الصوت عالياً مطالباً بتطبيق ما تبقى من اتفاق الطائف، وهو يكتفي كما صرّح في أكثر من مناسبة بتحقيق بعض الإصلاحات في بنية الدولة تحت عنوان محاربة الفساد من دون التطرق، لا من بعيد ولا من قريب، لاتفاق الطائف وإقرار كل بنوده.