بعدما فرضت الأوضاع الإقتصادية سطوتها على جـميع الأفرقاء، ونخر الفساد كل مؤسّسات الدولة وشلّها، ودخلت مقرّرات وتقديـمات مؤتمر «سيدر» فـي دائرة الخطر، تدخّل «حزب الله» وأجرى عملية قيصرية فـي اللحظة الأخيرة، وتـجمّدت الـخلافات وهدأت الـمناكفات، وانطلقت حكومة «إلى العمل» مُعلِنةً عن مهمّتها بأنها حكومة أفعال لا حكومة أقوال.
ولكن، ما كادت الحكومة تبصر النور، حتـى عادت الـمناكفات، وبرز خلاف بيـن رئيس الـحكومة سعد الـحريري ورئيس «الـحزب التقدمـي الإشتـراكي» وليد جنبلاط، تـجسّد فـي سجالات إعلامية.
وما ان إصطلـحت الأمور بيـنهما، حتـى جاءت جلسة مـجلس الوزراء التـي ترأسها رئيس الـجمهورية وكشفت عمق الـخلافات بيـن أعضاء الـحكومة، لا سيـما فـي الـملفّ السوري.
إنّ الثقة الكبيـرة التـي حصلت عليها الـحكومة، لا قيـمة لـها من الناحية العملية. 111 صوتاً تمثّل كتلها وليس شعبها، فلغة الشعب هي اللّغة التـي تكلّم بـها النواب فـي مناقشة البيان الوزاري، ومعظم النواب أعطوا ثقة مشروطة، لأنّ الـحكومة التـي وُلدت، لا تـختلف بشيء عن الـحكومة التـي رحلت، والوجوه التـي تغيـّرت لن تتمكّن من تغيـيـر سلوك وتوجّهات كتلها وسياساتها، والـملفّات الـخلافية ستبقى جاهزة للإنفجار.
إنّ السجالات التـي ظهرت وإحياء نزاع الصلاحيات مـجدّداً بيـن رئيس الـجمهورية ورئيس الـحكومة صدمت اللبنانيـيـن، وأدّت إلى عرقلة إنطلاقة الـحكومة التـي يرصد أعمالـها الشعب البائس والـمقهور والرأي العام الدولـي الذي ينتظر الإصلاحات التـي تعهّد بـها لبنان فـي الشروع فـي تنفيذها.
فالسـجال الذي حصل فـي مـجلس الوزراء حول موضوع النـزوح السوري، إلى موضوع الصلاحيات الذي عاد إلى العلن، يدلاّن على أنّ الـحكومة تـحمل فـي طياتـها عناصر قابلة للإنفجار، وليست على قدر الـمسؤولية وعلى مستوى الـمرحلة الدقيقة التـي تـمرّ بـها الـمنطقة. فالسؤال الذي يطرح نفسه: لـماذا أصرّ بعض الأفرقاء فـي إدخال الـملفّ السوري بتعقيداتـه وتشعّباتـه إلى أروقة مـجلس الوزراء فـي أولـى جلساته؟
الـجميع يعلم الـخلاف الكبيـر حول هذا الـملفّ، والـجميع يعلم أنّ زيارات الـمسؤوليـن السياسيّـيـن والأمنيّـيـن إلى سوريا لـم تتوقف طوال الفتـرة السابقة، فلـماذا إثارة هذه الـمشكلة فـي هذا التوقيت بالذات؟
لا يـمكن أن تستقيـم الأمور إذا لـم يتخلّ أركان السلطة عن مصالـحهم الشخصية وارتباطاتـهم الإقليميـة ويركّزون جهودهم على معالـجة الأسباب التـي أدّت إلى وصول الأوضاع الإقتصادية والـمالية إلى حافة الإنـهيار، والعمل على تأميـن أبسط مقوّمات العيش الكريـم للـمواطن الذي يرزح تـحت أعباء ثقيلة لـم يعد يتـحمّلها.
إنّ الأوضاع الـمعيشية الـمزرية التـي دفعت بالشهيد جورج زريق إلى إحراق نفسه، هي أوضاع تعانيها آلاف العائلات اللبنانية نتيجة سياسة الـمحاصصات والسمسرات والسرقات والـهدر، ونتيجة الـهريان فـي مؤسّسات الدولة وتعاظم أعداد الفاسدين والـمفسدين.
تـمرّ الـمنطقة بـمرحلة تـحوّلات كبـرى، وأوضاع البلاد لا تتـحمّل فتح ملفات خلافية تؤدّي إلى الزعزعة. كفـى مزايدات فـي شأن النازحيـن السوريـيـن. لا مصلحة لأيّ فريق لبنانـي، مهما كانت توجّهاته الإقليمية، بإبقاء النازحيـن فـي لبنان، ولكنّ الـحلّ لا يتوقّف على ما يريده اللبنانيون، ولا على ما يضمره الـمجتمع الدولـي، بل ما يريده النظام السوري. هل سـمعتم مرة واحدة الرئيس بشار الأسد يدعو الستة ملايـيـن نازح بالعودة إلى سوريا معزّزيـن ومكرّميـن مهما كانت ميولـهم السياسية والـحزبية، ورافِعاً عن رقابـهم سيف الـخدمة العسكرية الإلزامية؟
نعم، لبنان بأمسّ الـحاجة إلى رئيس يضرب يده على الطاولة لـحسم أيّ خلاف، لأنّ الدولة من دون رأس كالـمنـزل من دون رجل، لا سيـما وأنّ الـحكومة العتيدة تضمّ كل التناقضات، وقضية النازحيـن هي قضية وجودية تتعلّق بـحماية الكيان اللبنانـي، ولكن الـمطلوب الآن وقبل كل شيء، وضع الـخلافات السياسية جانباً والركون إلى لغة التهدئة لـمواجهة الـمشكلات الكثيـرة التـي يعانـي منها الوطن، والبدء بالإصلاحات الإقتصادية والمالية وتنفيذ توصيات مؤتـمر «سيدر» وتطبيق مقرّراته.
هذه هي الـمهمّة الأساس لـحكومة «إلى العمل»، أمّا الـمهمّة الثانية التـي لا تقلّ أهـمّية عن الأولـى، فـهي وقف الـهدر والفساد والسيـر برفع السرّية الـمصرفية عن ثروات متعاطي الشأن العام على كل الـمستويات، واسـتـرجاع أموال الشعب الـمنهوبة.
إنّ الثقة بالسلطة وبالطبقة السياسية التـي لـم تورثنا سوى الديون والفوائد والظلمـة والزبالة، تشبه الأزهار الإصطناعية التـي لا جذور لـها. لا نغالـي إذا قلنا إنّ الـحكومة أمام خياريـن لا ثالث لـهما: إمّا النهوض بلبنان وإنـجاح العهد وإمّا السقوط وإسقاط العهد.
صحيح أنه لا يزال مبكراً جداً الـحكم على أداء الـحكومة، ولكنّ الـمواطنيـن يتوقّـعـون منها أن تبدأ بمعالـجة مشكلاتهم الـملـحّة تعويضاً عن تسعة أشهر من الإهتـراء والفراغ. يقول جبران خليل جبـران: «كل شيء مـمكن أن تكون له فرصة ثانية، إلاّ الثقة».
ومن أصعب ما يواجهه الوطن، هو أن يفقد الـمواطنون الثقة بــحكّامهم، فالثقة كالـمزهرية، حالـما تنكسّر لن تعود أبداً كما كانت حتـى وإن أصلحتها.