يعيش لبنان اليوم ما عاشه منذ دخوله في سلم أهلي مفخخ مع تسليمه دولياً وعربياً الى النظام الاسدي. الفخ يختار طرائده. فهو لا يزال قائماً وملغّماً بأسلوب مكشوف فيه الخبث المكثف المقنع بـ"المبادئ الشرعية والأخلاقية". سيصله الدور، كلّ من يصمت ويستكين او يظن نفسه في مأمن من هذا الخبث الموظف للقضاء النهائي على كل من يقف حجر عثرة في مسيرة مشروع المحور الإقليمي.
المهادنة والتسليم بالأمر الواقع لا ينفعان ولن يثنيا "الشرفاء" قيد انملة عن مسارهم القاضي بإطباق قبضة محور الممانعة على كل ما في هذا البلد الذي لم يعد أميناً لمن يفكر في السيادة او استبدال السيادة بالسلطة.
من يراقب محاور الهجوم المتعددة الأبعاد، فسيرى بعين مجردة وحيادية ان من يدعي النزاهة والحياد ومصلحة الناس لدى تسليم ملفاته الى القضاء، يرمي الى أبعد من ذلك بكثير، ولا سيما ان تاريخه حافل بكل ما يخالف القضاء. اللائحة تطول ولا تنتهي.
لنبدأ من مافيا الادوية التي وصل مستوى الإجرام فيها الى تزوير توقيع وزير المال. المزوِّر الذي قيل انه أخضع نفسه للتحقيق، دخل الى المخفر معززاً مكرماً وخرج معززاً مكرماً، وأصبح على رأس أمبراطورية الدواء في لبنان.
لنعد قليلاً الى تزوير شيكات المتضررين من العدوان الإسرائيلي على لبنان في العام 2006، وتوقيف بعض المزورين. فقد تبين بالمصادفة ان هؤلاء ممانعون أشاوس، على الرغم من ان الصحافة الصفراء فضحت الملفّ، عندما علمت بانكشاف أمرهم، والتفّت على التحقيق السري الهادف الى تعقب جميع المتورطين، وطعنت بنزاهة القضاء واتهمت بالجريمة من رفض تسليم المساعدات الى المتحكمين بالبيئة الحاضنة. بالطبع تم دفن الملف وانتهى توقيف المتهم الرئيسي بعد أشهر، تماماً كما كانت الحال مع جريمة اغتيال الضابط سامر حنا.
لننعطف على سوق الكبتاغون. الموقوف في أحد ملفاته هو الشاري. لكن ماذا عن البائع الذي أوصل البضاعة الى الطائرة؟ هذا يدل انه يتجول في حرم مطار بيروت ومدرّجاته كما يتجول في بيته. لماذا بترت التحقيقات عند الموقوف، وأين القضاء والقدر في هذه الواقعة؟
لا تنتهي اللائحة، وآخرها يصل الى الدعارة، وإثارتها بعد انكشافها، ليست سوى حملة مضللة يقوم بها "المبغضون". إن لم تصدقوا، راقبوا هذه اليقظة غير المفهومة على تجار المخدرات. وتابعوا المراقبة لنرى كيف ستنتهي الخواتيم، سواءً بطيّ الملف، او بخطة مرسومة تسهّل تشريع زراعة الحشيشة!
الا ان الضجيج العالي لفتح ملفات الفساد يجب ان لا يحجب النظر عن الخطوات الملغومة المترافقة، وإن بضجيج أقل. لنراقب الى أين سيقود دسِّ الفتنة المستمرة والملتهب جمرها في المجتمع الدرزي، وهدفها ليس ترويض المتمرد على المحور، وإن هادن، ولكن لإردائه اذا استطاع المتسلل من الخاصرة الرخوة الى ذلك سبيلاً، مع انه لم يوفر السبل منذ الكزدرة بالسلاح في المختارة، مروراً بإراقة الدم واستغلاله، وليس انتهاء بالتصاريح المطلوبة لقطع الطريق بين الجبل اللبناني وجبل الدروز في السويداء، الا لمن يقدم فروض الطاعة.
وأيضاً في الحكم على "القوات اللبنانية" في شأن ملكيتها محطة "ال بي سي" بحجة "المال الميليشيوي". كأن تمويل كل وسائل اعلام ميليشيات الحرب والممانعة وصحافتها الصفراء وجيوشها الالكترونية خارجة عن هذا القياس وتعيش من الاعلانات.
المعادلة لا تزال على حالها. والاستخدام بكثير من القداسة المفتعلة لوجع اللبنانيين يكرسها ويجذرها في مسارها.
هي الدائرة تدور وتطبق على كل من ناهض ويناهض ويمكن ان يناهض محور الممانعة. لا أكثر ولا أقل. الفخ يكمن في القول ان "الفاسد" لا يمثل الا نفسه، ولا يمثل طائفته أو حزبه أو حتى عائلته، ويشبه اغتيال سمير قصير وجبران تويني ومحمد شطح، الذي كان فقط للقضاء على فكرة "14 آذار" وروحها.
او ان الفاسد "الفردي" محتقر، حيال خطة "الفساد الأكبر، الذي يتجاوز الطائفة والحزب والعائلة الى القيادة العليا التي تدير المحور، وتستخدمه، كما السلاح، في قضايا مصيرية، لتسيير أمور مشروعها المافيوزي من خلال تجارة المخدرات وتبييض الأموال ووضع اليد على مطار بيروت الممسوك بكاميرات مراقبة ممانعة ليفلت الوضع على غاربه، فتنقض بين حين وآخر على صغار المستفيدين، ليبقى الفلتان الممنهج على حاله في المطار، وكذلك في المرفأ والحدود البرية السائبة.
ما يحصل من ضجيج في شأن موضوع شعبوي، وما يرافقه من استهدافات لشخصيات قدَّر الممانعون انها قد تعيق الدخول بسلاسة الى المرحلة المقبلة، ليس سوى استكمال لمسلسل الاغتيالات الذي لم يتوقف منذ بدايته في خضم الحرب الاهلية. قد يتغير الأسلوب والأدوات، لكن الاغتيال باقٍ. وكل ما يحصل يشير الى ان القتل لا يعني بالضرورة معناه الجسدي، وقد يعني ... الله يستر.
لا شيء توقف. لا أحد في مأمن. وكل ترويكا زائفة عند اللحظة المناسبة للانقضاض على من حسب انه في مأمن.
أبعد من الفساد وملفاته ما يجري.
لبنان يغرق، والقتيل الراضي بموته، سواء هادن او انتفضى او أذعن، لن يرضي القاتل.