لم يبدِ “حزب الله” فطنة توازي حضوره في موضوع ما أطلق عليه أمينه العام حسن نصرالله “مكافحة الفساد”! مسخ قضية الفساد في لبنان بضغينة صغرى اسمها فؤاد السنيورة. علماً أنها ضغينة منقضية ولا مضمون سياسياً لها اليوم، ذاك أن السنيورة رئيس حكومة متقاعد، لم يترشح للانتخابات النيابية، ولا يبدو أن ثمة أفقاً لـ”مستقبله” السياسي.
نصرالله وعد اللبنانيين بأن الحزب، ومثلما حرر لهم بلدهم، سيحررهم من الفساد! وإذ بهذا الوعد يقتصر على فؤاد السنيورة. الحزب الذي لم يعد بمنأى عن الفساد، محاط بالفاسدين من كل حدبٍ وصوب. حلفاء فاسدون، وخصوم فاسدون. الجميع أعفي من تعقب الحزب له، باستثناء فؤاد السنيورة! يؤشر هذا إلى حقيقة “المقاومة”، فالأخيرة سبق أن أعفت حلفاءها من تُهمٍ العمالة في سياق مواظبتها على تخوين خصومها. صورة بشير الجميل مع أرييل شارون قرينة ثابتة على عمالته، بينما صورة ميشال عون مع ضباط إسرائيليين لا تستدرج سوى الصمت!
هذا المزاج الانتقائي يؤشر إلى أن ليس لدى الحزب سوى ضغائنه. لا مشروع لبنانياً له، ذاك أن اندراجه في مشروع ولاية الفقيه، يعفيه من هموم من هذا النوع. “مكافحة الفساد” ليست أكثر من عبارة يجب أن تُوظف في هذا السياق. فؤاد السنيورة يصلح ليكون كبش فداء هذه المهمة الصغرى. أن يُتهم سعد الحريري أو وليد جنبلاط أو نهاد المشنوق بالفساد، فهذا لن يفيد نفوذ ولاية الفقيه في لبنان هذه الأيام، ذاك أنهم جزء من توازن لا يضيرها. أما ميشال عون ونبيه بري وجبران باسيل، فاتهامهم بالفساد سيعني تشكيكاً بخيارات ولاية الفقيه، وهذا ليس مطروحاً على الإطلاق. إنهم جزء من “أشرف الناس”، ولا فساد يعتري مساراتهم. هذا امتداد للصفح عن الصورة، كان مارسه الحزب عندما أعفى حليفه من تبعات صورته مع الضباط الإسرائيليين.
على هذا النحو يمارس “حزب الله”، “مكافحة الفساد”! وهذا هو الطريق إلى مزيد من الفساد. قد لا يكون السنيورة من “أشرف الناس”، لكنه محصن اليوم بطائفة أراد الحزب أن يفتح حرباً بوجهها عندما قصر الفساد على ممثل من ممثليها. مكافحة الفساد بوصفها أداة في حربٍ أهلية. الحزب لا يجيد السياسة خارج الحروب الأهلية. قرر أمينه العام أن “يكافح الفساد”، فحوّل هذا الفعل حرباً أهلية صغرى ضمن حزمة الحروب الأهلية التي يخوضها حزبه من المحيط إلى الخليج!
“حزب الله” لا يصلح إلا للقتال، أو لا يجيد أكثر من القتال. فسريعاً ما انهارت مقولة أمينه العام عن مكافحة الفساد. صارت جزءاً من ضغينة أهلية، وشُهر في وجهها فساد موازٍ. هذا المسار سيجعل للفساد وظيفة أهلية، وسيعطيه شرعية كان سبق للحزب أن أعطاه إياها، عندما أعفت المقاومة حلفاءها من فسادهم الذي يعرفه كل اللبنانيين. هذه هي المقاومة، فهي ليست أكثر من ضغينة أهلية، يمارسها أهلها على نحو يومي.
سيجد فؤاد السنيورة من يدافع عنه على نحو لم ينله في ذروة تعاطف الطائفة السنية معه. حصل مثل هذا الأمر قبل نحو أسبوعين حين قرر نائب “حزب الله” نواف الموسوي أن يتعرض لبشير الجميل ولابنه النائب في البرلمان نديم الجميل. حظي نديم باحتضان نادر من معظم القوى المسيحية، واعتذر الحزب وغاب الموسوي عن البرلمان في اليوم الثاني.
“حزب الله” لا يصلح إلا للقتال، أو لا يجيد أكثر من القتال. فسريعاً ما انهارت مقولة أمينه العام عن مكافحة الفساد. صارت جزءاً من ضغينة أهلية، وشُهر في وجهها فساد موازٍ. هذا المسار سيجعل للفساد وظيفة أهلية، وسيعطيه شرعية كان سبق للحزب أن أعطاه إياها، عندما أعفت المقاومة حلفاءها من فسادهم الذي يعرفه كل اللبنانيين.
هذه هي المقاومة، فهي ليست أكثر من ضغينة أهلية، يمارسها أهلها على نحو يومي. فؤاد السنيورة فاسد، أما ميشال عون ونبيه بري وجبران باسيل، فهم خارج دائرة استهداف الحزب. وليد جنبلاط اليوم أيضاً خارج هذه الدائرة، ذاك أن الوقت لا يتسع لمواجهة مع الدروز هذه الأيام.
إنه ابتذال لمكافحة الفساد، ومرة أخرى يحار المرء بهذا الحزب الذي ما أن قرر ممارسة السياسة حتى كشف عن حجمه الضئيل. الحزب الممتد من لبنان إلى فنزويلا يخوض معاركه الصغرى مزوداً بذاكرة سمكة. مرة يستحضر رئيساً قتل قبل أربعين عاماً، ومرة أخرى يمسخ الفساد برئيس متقاعد. أي حزب هذا، وأي ذكاء يحركه؟ يعيدنا هذا إلى واقعة مؤسِسة لهذا الوعي، أي الوعي الضغائني، فثمة يوم لا يُنسى شهر فيه نصرالله أصبعه عام 2009، قبل الانتخابات النيابية بأيام، وقال في لحظة أدرينالية أن يوم 7 أيار/ مايو، وهو اليوم الذي اجتاح فيه حزب الله أحياء بيروت وأهان أهلها، “يوم مجيد”. قبل هذا القول لم يكن سعد الحريري في أحسن أيامه، والاستطلاعات كانت تؤشر إلى عدم تقدمه في الانتخابات، وبعد هذا القول فاز الحريري في الانتخابات وخسر الحزب وحلفاؤه الأكثرية النيابية! الموسوي فعل ذلك مع نديم الجميل، وها هو فضل الله يكررها مع فؤاد السنيورة.
والحال أن “حزب الله” بوصفه صدعاً أهلياً، لا يصلح لمكافحة الفساد. الحزب نشأ لخوض حروب لا لخوض السياسة. نوابه في مجلس النواب مقاتلون لا برلمانيون. فلندقق بوجوههم، ولنصغِ إلى خطبهم. فحين قرر نائبهم الشاب أن “يكافح الفساد” اختار هدفاً “أهلياً”. الخطوة مثلت طلقة في رأس أي راغب في مكافحة الفساد. من غير الشائع في لبنان أن فؤاد السنيورة غير فاسد، لكن من غير الشائع، لا بل من المثبت أن حلفاء الحزب الأهليين فاسدون، وهم طبعاً خارج دائرة استهدافه في “الحرب على الفساد”.
والحزب وفي سياق ابتذاله “مكافحة الفساد” يتولى مهمة ابتذال صورته أيضاً. فلا أحد في لبنان غير فاسدٍ، ولدى الجميع وثائقه، والحزب انغمس في حفلة “تقاسم الجبنة”، وسقطة نواف الموسوي الخطابية قد تتكرر في مشهد حسن فضل الله أثناء رفعه سبابته في وجه “خصوم الطائفة”.