أظهر الجزائريون في السنوات القليلة الماضية، أقلّه في السنوات الخمس الأخيرة وعيا كبيرا. صبروا طويلا من أجل المحافظة على السلم الأهلي، على الرغم من أنّ كلّ الظروف كانت مهيأة من أجل انفجار كبير في الشارع بعد اكتشافهم أن رجلا مريضا اسمه عبدالعزيز بوتفليقة يحكمهم… عبر آخرين احتموا خلف صورته. ترافق ذلك مع تدهور الوضع الداخلي اقتصاديا واجتماعيا بعدما تبيّن أن بوتفليقة لم يستطع الإقدام على أي إصلاحات من أيّ نوع منذ توليه الرئاسة في العام 1999.
بقيت الجزائر رهينة سعر برميل النفط والغاز على الرغم من امتلاكها ثروات كبيرة، بما في ذلك الثروة الإنسانية. أكثر من أيّ وقت اشترى بوتفليقة رضا الناس وسكوتهم بأموال النفط والغاز اللذين ارتفعت أسعارهما منذ وصوله إلى الرئاسة، لكنها عادت إلى الهبوط ابتداء من العام 2014.
يعرف الجميع، داخل الجزائر وخارجها، أنّ السلطة في مكان آخر، أقلّه منذ العام 2013. كانت هناك، ولا تزال، حلقة ضيقة تحيط بعبدالعزيز بوتفليقة تحتكر السلطة ولا تجرؤ على إخبار المواطن العادي بحقيقة ما يدور في كواليس السلطة. على أفراد هذه الحلقة حماية أنفسهم في مرحلة ما بعد رحيل الرجل. من يقدّم الضمانات المطلوبة مستقبلا لأفراد هذه الحلقة الضيّقة الحائرة بما تفعله بنفسها في غياب عبدالعزيز بوتفليقة الذي لم يعد سوى ستارة تصلح للاختباء خلفها وليس شيئا آخر غير ذلك. بلغت الحيرة بهؤلاء مرحلة السعي إلى تأمين ولاية خامسة لرجل في كرسي نقال لا يدري بما يدور حوله. جوهر الأزمة الحالية في الجزائر وضع أفراد الحلقة الضيقة
الذين يهمّهم مستقبلهم وليس مستقبل الجزائر التي صارت بلدا بائسا من 45 مليون نسمة.
ما جعل المواطن الجزائري يلجأ إلى الصبر ويحتمي به، على الرغم من تدهور الظروف المعيشية، خصوصا منذ عودة أسعار النفط إلى الهبوط، هو الخوف من العودة إلى “سنوات الرماد” بين 1988 و1998. ظل بوتفليقة، على الرغم من غيابه يمثّل شعورا بالأمان خلقه بعد توليه الرئاسة في العام 1999. بقي الجزائريون، الذين يعرفون تماما أن رئيسهم صار معطوبا منذ تعرّضه لجلطة في الدماغ عام 2013، يرفضون أي مجازفة من أيّ نوع. هذا ما سهّل على الجزائر تجاوز مرحلة “الربيع العربي”. بدا المواطن الجزائري في غاية الحذر حيال ما يدور في بلدين قريبين منه هما تونس وليبيا، وبلد بعيد مثل سوريا. كانت تجارب السنوات العشر التي مرّ فيها الجزائريون، بين 1988 و1998 كافية كي يتعلّموا أنّ النزول إلى الشارع ليس مزحة وأنّه يمكن أن تكون له عواقب وخيمة. ارتضوا بكل المظالم التي لحقت بهم تفاديا لعودة إلى “سنوات الرماد”.
لا بدّ من الاعتراف أن قوى الأمن في الجزائر استطاعت في عهد بوتفليقة التعاطي بحكمة مع أي اضطرابات في الشارع. عرفت كيف تستوعب هذه الاضطرابات وتتفادى العنف والتصعيد. اكتسبت ما يكفي من الخبرة كي تلعب دورها في حماية الجزائر من أي انزلاقات في الشارع تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
تميّز عهد بوتفليقة الطويل بهدوء نسبي على الصعيد الداخلي، لكنّ المشكلة التي خلقها تكمن في أنّه لم يؤسس للمستقبل بمقدار ما أن الرجل حاول تصفية حسابات مع الماضي، خصوصا مع العسكر الذين حالوا دون تولّيه الرئاسة مطلع العام 1979 خلفا لهواري بومدين. بقي بوتفليقة أسير الماضي وأسير ذهنية متحجرة ترى أن للجزائر دورا على الصعيد الإقليمي، على حساب المغرب طبعا. بقي المغرب، إلى يومنا هذا، العقدة التي لم تفارقه.
انتقم من كلّ من وقف في طريق وصوله إلى الرئاسة في 1979 ومن تركيب ملفّات فساد له، قد تكون صحيحة أو غير صحيحة، عندما كان وزيرا للخارجية بين 1965 و1978. استتبع ذلك ملاحقات قانونية لا تزال في ذهن أفراد الحلقة الضيّقة المحيطة به الذين تحيط علامات استفهام كثيرة في شأن صفقات معيّنة لم يكونوا بعيدين عنها ورجال أعمال تولّوا حمايتهم…
في كلّ الأحوال، ترشّح عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة أم لم يترشّح، ليس ذلك هو السؤال. السؤال إلى أيّ حد يستطيع الجزائريون ممارسة الصبر؟ نزل المواطنون إلى الشارع في مناسبتين من أجل الاعتراض على ترشّح عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة. تحلّى المعترضون على الولاية الخامسة بمقدار كبير من الشعور بالمسؤولية. كان كلامهم بسيطا ومباشرا ومنطقيا. فحوى هذا الكلام أن ليس مسموحا لمجموعة، على رأسها سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الجزائري، حماية نفسها عن طريق إهانة الشعب الجزائري عبر انتخاب شخص أشبه بدمية رئيسا للجمهورية.
في النهاية، لا وجود لأي منطق من أيّ نوع لدى الذين يروجون للولاية الخامسة في بلد يمتلك مجموعة كبيرة من السياسيين اللامعين والدبلوماسيين من ذوي الكفاءات. لا يجوز بقاء الجزائر أسير ذهنية العيش في الماضي وعقده، وهي الذهنية التي تحكّمت بعبدالعزيز بوتفليقة. منعت هذه الذهنية الرئيس الجزائري من الإقدام على أيّ خطوة تظهر أنّه يستوعب ما يدور في البلد وأن العالم تغيّر، وأن هواري بومدين لم يكن سوى دكتاتور جاهل بدّد ثروات الجزائر وأسّس للأزمات التي تفجّرت في عهد الشاذلي بن جديد.
من الصعب تصوّر انتخابات رئاسية جزائرية في الثامن عشر من نيسان في حال ترشّح عبدالعزيز بوتفليقة. هل انقطع نسل السياسيين في الجزائر كي لا تجد الحلقة الضيّقة المحيطة به شخصا ترشّحه يمكن أن يوفر لها الضمانات المطلوبة بعد عقد صفقة ما معه؟
هناك أسماء كثيرة كان يمكن طرحها، ولكن لا يبدو أن هناك ما يدعو أعضاء الحلقة الضيقة إلى الاطمئنان إلى مستقبلهم في غياب بوتفليقة، ولكن لماذا لا يفكّر هؤلاء بطريقة مختلفة. تقوم هذه الطريقة على أن بوتفليقة صار من الماضي ولا أمل بأن يستعيد شبابه وحيويته. الخدمة الوحيدة التي أداها للجزائر كانت في تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية التي لم تستطع أن تلعب في عهده الدور الذي كانت تأمل في أن تلعبه. هل هذا يعني أن البلد صار فالتا ولم تعد هناك جهة أمنية قادرة على التحكّم باللعبة السياسية كما كانت عليه الحال في الماضي؟
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال المتعلّق بالمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية التي يمكن أن تقدم على مفاجأة. لا يمكن تجاهل أن المؤسسة العسكرية لم تنته كلّيا بعد. لا يزال لها وجود وإنْ في حدود معيّنة، لكن ما قد يكون أسهل من الإجابة عن هذا السؤال أن الشعب الجزائري يشعر كلّه بالإهانة. لن تمرّ الولاية الخامسة لبوتفليقة من أجل حماية مجموعة صغيرة من الأشخاص تريد حماية مستقبلها. يظلّ مستقبل الجزائر أهم بكثير من مستقبل سعيد بوتفليقة وبعض المحيطين به..