في اليوم الذي جرى فيه توقيع الاتفاق بين لبنان وشركة روسنفت، لتلزيمها خزانات النفط في طرابلس، برز موقف صيني غير علني، معني بالملفين اللبناني والسوري. الموقف أطلقه أحد المسؤولين الصينيين المهتمّين بالشرق الأوسط وتحديداً في سوريا ولبنان، ويقول:" الآن أصبح بإمكاننا التقدّم والعمل." والمقصود بهذه الجملة أن بكين كانت تنتظر نوعاً من الغطاء السياسي لتأمين دخولها العملي، وفتح طريق إعادة إعمار سوريا. يركّز الصينيون على طرابلس، في شمال لبنان، كقاعدة أساسية للإنطلاق منها إلى الداخل السوري، والمقصود بتلك الجملة التي قالها المسؤول، إن أي عملية من هذا النوع كانت بحاجة إلى قواعد أمان. وبمجرد دخول روسيا على الخطّ النفطي، فإن هذه القاعدة قد تأمنت.
من سوريا إلى لبنان
ثلاثة ملفّات أساسية تركّز موسكو على إمساكها في لبنان. بدأت بالدخول إلى المجال النفطي من خلال شركة نوفاتيك، إلى جانب شركتين فرنسية وأخرى إيطالية. وفيما بعد أطلقت مبادرة تتعلّق بإعادة اللاجئين إلى مناطق آمنة في سوريا. أما الملف الثالث وربّما سيكون الأهم سياسياً، هو استعداد موسكو لتقديم مخطط، في مبادرة لترسيم الحدود اللبنانية سواء مع سوريا شرقاً، أو مع الأراضي الفلسطينية المحتلة جنوباً. الهدف من تلك المبادرة الروسية الجديدة، يطال أبعاداً متعددة، أمنية وعسكرية، سياسية، ونفطية.
ما لا شك فيه، أن أي خطوة روسية ستصبّ في هذا الإطار، هي دليل جديد على مدى التنسيق المباشر أو غير المباشر مع الأميركيين. وهذا التنسيق لا ينفصل عن الاتفاق الذي تمّ بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، في قمة هلسنكي، والذي مهد الطريق أمام الانسحاب الأميركي من سوريا، ولو صورياً، مقابل توسيع النفوذ الروسي هناك. أي انسحاب أميركي سيحدث من شرق سوريا، وهو بالمناسبة لن يكون انسحاباً كاملاً، سيكون مشروطاً بتوفير المصالح الأميركية. وروسيا هي التي ستلعب دور تأمين هذه المصالح. من هذا الباب، بدأت موسكو بتوسيع مبادراتها ونفوذها السياسي في سوريا، ومنها باتجاه لبنان.
وعلى قاعدة الاستفادة الروسية من هذا الغياب الأميركي عن لبنان، أو الانسحاب من سوريا، تستمرّ روسيا بطرح المبادرات، ولا سيما المبادرة المرتقبة، خلال الفترة المقبلة، من أجل إنجاز ترسيم الحدود. هذه الخطوة، ستأتي بعد غياب أميركي شبه كامل عن هذا الملف، منذ الزيارة الأخيرة التي أجراها مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، قبل الانتخابات النيابية اللبنانية، الذي لم تصل مساعيه إلى أي حلّ. حينها، قيل أميركياً، أن الزيارة ستتكرر. وبعدها، نحّي ساترفيلد من منصبه، وعيّن مكانه ديفيد شينكر، الذي كان من المفترض أن يزور لبنان فور تسلّمه لمنصبه، لكنه حتّى الآن، لم يتسلّم منصبه عملياً، ما يعني أن الزيارة لن تحدث في المدى المنظور.
المقترح الأميركي بصياغة روسية
الابتعاد الأميركي عن المشهد، هو الذي سيدفع روسيا، وربما بالتنسيق مع الأميركيين والإسرائيليين، للتقدم بمبادرة جديدة لترسيم الحدود، خصوصاً أن المبادرة الأميركية قد رُفضت لبنانياً، فلم يوافق لبنان على خطّة هوف، ولا على التعديلات التي اقترح ساترفيلد إدخالها. وتنص الخطتان على وجوب تقاسم المخزون النفطي والغازي في البلوكات النفطية الجنوبية (9 و10 مستقبلاً) مع الكيان الإسرائيلي، بنسبة 60 بالمئة للبنان وأربعين بالمئة للإسرائيليين. وهو الأمر الذي يرفضه لبنان بشكل قاطع. يعتبر الروس أن اللبنانيين رفضوا هذه المقترحات لأنها أميركية، بينما لو اقترحها أحد غير الأميركيين، فستكون مقبولة لبنانياً، نظراً لتأثير روسيا على إيران وحلفائها.
وعلى هذا الأساس، تكشف معلومات متابعة، عن إعداد دراسة روسية حول ترسيم كل الحدود البرية والبحرية، وتقديمها إلى اللبنانيين والإسرائيليين في المرحلة المقبلة. وهي لن تكون بعيدة جوهرياً عن مضمون الخطط الأميركية. وأكثر من ذلك، فمثلاً، الشركة النفطية الروسية التي ستنقّب عن النفط في لبنان، سيكون من حقها جرّ الغاز أو النفط إلى حقل كاريش الإسرائيلي مثلاً، وتخزينه هناك مع النفط المستخرج من قبل الإسرائيليين من الأراضي المحتلة، واستخدام هذه الأنابيب من كاريش لتصديره إلى الخارج، على قاعدة أن النفط اللبناني قد تم شراؤه من قبل الشركة الروسية أو الفرنسية، من الدولة اللبنانية التي لم يعد لها علاقة به، ويمكن للشركات أن تسيّله وتجرّه إلى حيث تريد.
إدارة الظهر للأميركيين
لا شك أن دخول روسيا على خطّ ترسيم الحدود، وتقديم مبادرة في هذا المجال، سيعزز من حضورها وتأثيرها في لبنان، خصوصاً بعد دخولها إلى المجال النفطي في الشمال، وبفعل التنسيق وتقاطع المصالح بينها وبين فرنسا في هذا الملف، والذي أدى بشكل أو بآخر إلى تشكيل الحكومة اللبنانية، التي ولدت في لحظة تقاطع فرنسي روسي إيراني. ويوم حصل الاتفاق بالتراضي على تلزيم شركة روسنفت لخزانات النفط في طرابلس، سجّل عتب أميركي على الخطوة، التي أقدمت عليها الحكومة اللبنانية، بينما لم يعر المسؤولون اللبنانيون الاهتمام لهذا الموقف الاميركي، الذي لا يرون فيه أي جدية، على اعتبار أن روسيا تتمدد في المنطقة تحت السقف الأميركي، وأن واشنطن ستتخلى عن كل بيادقها، لحظة الاتفاق الكامل مع الروس. وبالتالي، لا بد من التشبيك مع موسكو استعداداً للمرحلة المقبلة.
يعّول لبنان على المبادرة الروسية لترسيم الحدود، وتأمين حدّ أدنى من الشروط الجدية، لحماية النفط في البحر، خصوصاً بعد مواقف عديدة أطلقها رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، أمام مسؤولين دوليين، حول التجاوزات الإسرائيلية في هذا المجال، وصولاً إلى حدّ اعتبار أن إسرائيل تعتدي على المياه الإقليمية اللبنانية. وهذا الملف سيكون حاضراً في زيارة مرتقبة سيجريها الرئيس سعد الحريري إلى موسكو، للقاء الرئيس الروسي، والتي ستؤشر إلى مدى التدخل الروسي على خطّ ترسيم الحدود، بدلاً من المساعي الأميركية.