لم تكن مجرد استقالة وزير عاد عنها بعد أربع وعشرين ساعة. كانت هزة ارتدادية عنيفة على فالق الصراع المحتدم بين تيار المتشددين في إيران وتيار الإصلاحيين، الذي يحاول نظام الملالي تحميله مسؤولية الأزمة الاقتصادية الخانقة بعد العقوبات الأميركية.
أهم من استقالة محمد جواد ظريف وعودته عنها، ذلك الارتباك الكبير الذي سيطر على الساحة الإيرانية، وخصوصاً لجهة تهافت النظام والتيار المتشدد على إعطاء تفسيرات متناقضة لسبب الاستقالة. فبعد الحديث عن أن ظريف استقال اعتراضاً على تغييبه عن الاجتماعات التي عقدت مع الرئيس بشار الأسد في طهران، وهو ما قال قاسم سليماني الذي حضر كل هذه الاجتماعات، إنه نجم عن خطأ بروتوكولي في التحضير للزيارة المفاجئة، توالت التصريحات التي تحدثت عن أن ظريف سبق أن قدّم استقالته منذ شهرين، على خلفية انقسامات جذرية بين حكومة الرئيس حسن روحاني والتيار المتشدد الذي يحيط بالمرشد علي خامنئي.
كل المسرحيات التي قدمها النظام بدت دليلاً متزايداً على الارتباك، سواء فيما قيل عن أن زيارة الأسد المفاجئة، كانت بدعوة سرية من قاسم سليماني، وهدفها الرد على عروض يتلقاها الأسد من واشنطن، وفحواها كما قال حسن أمير عبد اللهيان، أن يبقى رئيساً مدى الحياة مقابل إنهاء التحالف مع إيران وميليشياتها، أو في تلك الدعوة الاستلحاقية التي وجهها وليد المعلم إلى ظريف لزيارة دمشق، وكأن مشكلة ظريف تكمن فقط في أنه استبعد عن الاجتماعات مع الأسد في طهران؛ حيث لم تتذكر إيران أو تتكرم على الأسد برفع علم بلده في كل الاجتماعات التي عقدها.
تصريحات عبد اللهيان يوم الأربعاء، زادت الاقتناع بأن هناك انقساماً عمودياً حاداً في طهران حول التعامل مع الأسد، في ظل معلومات متزايدة عن محاولات استغلال الأسد للتناقضات الروسية الإيرانية المتصارعة على النفوذ والمصالح في سوريا، والتي تردد أخيراً أنها وصلت إلى حدود الاشتباك المسلح بين فرقتين من الجيش السوري، واحدة تأتمر بموسكو والثانية تأتمر بطهران.
زيارة الأسد مسألة تفصيلية في موضوع الهزة على فالق الصراع بين المتشددين والإصلاحيين، وإذا كان عبد اللهيان يقول بأن ظريف قدم استقالته قبل شهرين، ولا علاقة لها بما تردد عن انقسام في طهران حول استقبال الأسد، فإن النائب في مجلس الشورى أحمد علي رضا بيكي، أعلن أن ظريف يقدم استقالته منذ أكثر من شهرين، وتعمّد ربطها بقصة اللقاءات مع الأسد للتعمية على مشاكل النظام المتفاقمة!
ليس المهم العودة عن الاستقالة التي لن تغيّر شيئاً في الانقسامات داخل المستوى السياسي في طهران؛ لكن الاستقالة المزلزلة التي استدعت ترتيباً سريعاً أعاد ظريف إلى الخارجية، حملت مؤشرات مهمة في طريقتها وأسلوبها، ذلك أن ظريف لم يقدّم الاستقالة إلى رئيس الحكومة أو إلى المرشد علي خامنئي؛ بل ذهب إلى الشعب مباشرة، وعبر تغريدة في «إنستغرام»، وهي من وسائل الاتصال الاجتماعي التي لا يستسيغها خامنئي والمتشددون كثيراً.
قال ظريف إنه رأى أن يستقيل للحفاظ على المصالح القومية الإيرانية، وعلى قوة إيران ومراعاة مكانة الخارجية الإيرانية، وإنه ليس حزيناً ولا منزعجاً، وليس في حاجة إلى ترضية من أحد، وهذا كلام يحمل الكثير في طياته المثيرة، فالمصالح القومية الإيرانية لا تتوقف عند حدود زيارة الأسد ولقاءاته؛ بل في طريقة التعامل مع أميركا والعالم الغربي بعد العقوبات التي تخنق إيران، والتي يستمر المتشددون في مواجهتها بعراضات الصواريخ والتدخلات المزلزلة للاستقرار في المنطقة.
أما إشارته إلى أنه ليس منزعجاً من أحد، فتستهدف حسن روحاني تحديداً، الذي تؤكد المعلومات وجود خلافات متزايدة معه حول كثير من الملفات، أما قوله إنه لا يحتاج إلى ترضية من أحد، فمن الواضح أنها رسالة إلى خامنئي شخصياً، ليس لتأكيد جدية الاستقالة التي رفضها روحاني فحسب؛ بل للقول إن القواعد الدبلوماسية التي يتبعها هي أفضل لإيران من المضي في التشدد وسياسات الاستفزاز، التي تزرع مزيداً من الأعداء في مواجهة إيران التي تعاني من العقوبات، أولم يعلن روحاني قبل أيام: «أن إيران تواجه أصعب أزمة منذ أربعين عاماً، وأن الحرب الاقتصادية أصعب من الحرب العسكرية، ولن ننجح في حربنا الاقتصادية أو العسكرية إذا لم نتلقَّ الدعم»؟!
ولكن من أين الدعم في ظل سياسات المتشددين وتدخلاتهم، وخصوصاً بعد مؤتمر وارسو، والدعوة إلى مواجهة إيران وميليشياتها وتصنيفها منظمات إرهابية؟
دعوة ظريف الدبلوماسيين في الخارجية الإيرانية إلى البقاء في مناصبهم ومواصلة عملهم، بدت مهمة تماماً كإعلان استقالته؛ لأنها رفعت الغطاء أكثر فأكثر عن عمق الانقسامات التي تعصف بالنظام الإيراني، وخصوصاً بعد الأنباء التي تحدثت عن أن عدداً كبيراً من هؤلاء الدبلوماسيين يستعد للاستقالة أيضاً، وهذا الموقف لا يرتبط طبعاً بحدود استقالة ظريف؛ بل بالأسباب عينها التي دعته وتدعوهم إلى التلويح بالاستقالة!
هل تشكل عودة ظريف عن الاستقالة علاجاً للانقسامات الجذرية التي دفعته إلى إحداث هذه الهزة؟
ليس هناك من يتوقع حدوث أي تغيير؛ لأن زجاج النظام الإيراني مكسور منذ زمن بعيد، قبل العقوبات، ومحاولات المتشددين تحميل حكومة روحاني مسؤولية ما تواجهه إيران من أزمات اقتصادية وإضرابات مطلبية، وانهيار مريع في عملتها؛ حيث باتت طباعة الـ500 تومان مثلاً تكلّف 400 تومان، وبعدما صار الدولار يساوي أكثر من 130 ألف تومان. الزجاج مكسور منذ سحق الثورة الخضراء التي لا تزال نابضة في الوسط الشبابي والجامعي الإيراني.
منذ قرر الرئيس دونالد ترمب إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، بات حسن روحاني ومحمد جواد ظريف من العناوين البغيضة عند المتشددين؛ لأنهما كانا من أبرز مهندسي هذا الاتفاق. وفي 14 أغسطس (آب) الماضي، بعدما دعا ترمب إلى عقد اتفاق معدّل، رفض خامنئي رغم الأزمة التي تخنق إيران؛ لا بل إنه حمّل حكومة روحاني مسؤولية الأزمة الاقتصادية قائلاً إن سوء الإدارة والسياسات التنفيذية في البلاد تتحمل المسؤولية: «لا أريد أن أسميها خيانة؛ لكنه خطأ فادح في الإدارة»!
تصريحات ظريف في ذلك الحين، بدت متناقضة تماماً مع كلام خامنئي، عندما حذَّر في لقاء مع ممثلي غرفة التجارة الإيرانية، من سقوط النظام وتفكك إيران، قائلاً في دفاع واضح عن روحاني وسياسة الحكومة: «إن هدف العدو تدمير إيران. نحن جميعاً نجلس في سفينة واحدة، من الأصولي إلى الإصلاحي إلى المعارض. لا تعتقدوا بأنه لو ذهب روحاني فإن الأصولي سينجح»!
كان هذا كافياً ليعمّق نقمة المتشددين عليه، وعندما طلب 24 نائباً في مجلس الشورى في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي استجواب ظريف تمهيداً لطرح الثقة به؛ لأنه تحدث عن غسل الأموال ومهربي المخدرات والمختلسين والمخلِّين بالقانون، بدا أن دائرة الكراهية تزداد من حوله، وخصوصاً بعدما وقف في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) وكرر كلامه أمام لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية.
واضح أنه وسط هذا الجو، قرر أن يخرج من الدائرة المغلقة على التشدد؛ لكن استقالته التي شكلت هزة قوية على فالق النظام المنقسم، كان يمكن أن تحدث زلزالاً؛ ليس من الواضح إن كانت عودته عن الاستقالة الآن ستمنع حدوثه أو تؤجل موعده، وخصوصاً عندما يقول مستشار خامنئي اللواء يحيي رحيم صفوي، إن إيران بعد العقوبات الأميركية قد تواجه مصير فنزويلا.