في هانوي عاصمة فيتنام، التي تمثل نموذجا للرأسمالية الجديدة بعدما كانت عاصمة النضال ضد الإمبريالية الأميركية، شاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب استخدام رمزية تحولها كنموذج ناجح من أجل إغراء الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون بحسنات الانتقال من زمن إلى آخر، وقبول صفقة حول نزع سلاحه النووي من خلال التعويل على علاقة شخصية بناها مع كيم انطلاقاً من إنجاز قمة سنغافورة وكذلك على الآفاق الاقتصادية الواعدة لبيونغ يانغ.
لكن مقاربة رجل الأعمال لا تصلح في مواجهة مشاكل معقدة، والأدهى أن سقوط رهان ترامب على اختراق في السياسة الخارجية أتى بعد يوم على شهادة محاميه الشخصي السابق أمام الكونغرس ونعته بأوصاف جارحة، مما يعني فشلاً مزدوجاً لسيد البيت الأبيض. إنه زمن النكسة الشخصية للرئيس الأميركي مع تداعياته المحتملة عشية التحضير لمعركة الانتخابات الرئاسية القادمة وعلى مجمل السياسات الأميركية في الداخل وحول العالم.
منذ بدايات عهد ترامب ومسلسل “روسيا غيت” يفاقم الاستقطاب الداخلي الذي بلغ ذروته بعد انتخابات نصف الولاية وتغير الأكثرية في مجلس النواب. ويتبين أن المواجهة حول مسألة الجدار الحدودي مع المكسيك وتحقيق المحقق روبرت مولر وغيرها من القضايا الخلافية تضع المؤسسات الأميركية على خط الزلازل. لكن ترامب توقع كل شيء إلا هذه الطعنات من محاميه السابق مايك كوهين الذي فند كيفية العمل ضمن فريق ترامب قائلاً “حضوره كان مسيطراً. تشعر وكأنك جزء من مسألة أكبر منك، بأنك في طريقة ما تغيّر العالم.
وانتهى بي الأمر بالترويج لخطاب ترامب لأكثر من عقد. مهمة الجميع في منظمة ترامب هي حمايته. في كل يوم كان معظمنا يدرك أننا سنأتي وسنكذب نيابة عنه حول مسألة ما، وهذه باتت القاعدة”. وأخطر ما قاله كوهين أنه يخشى “من ألا يسمح ترامب لخلفه بتولي الحكم سلمياً، إذا خسر انتخابات الرئاسة عام 2020”. لكن ترامب الذي نزلت شهادة كوهين عليه كالصاعقة إبان وجوده في هانوي وصف شهادة صديقه السابق بأنها “مخزية”، واستدرك “شيء واحد فقط لم يكذب في شأنه، عندما قال إن لا تواطؤ بين الحملة الانتخابية للرئيس وروسيا خلال الاقتراع عام 2016”.
بالرغم من أن إطلاق مسار عزل الرئيس ليس واردا حتى الآن لكن تحقيق مولر يشبه السيف المسلط على ما تبقى من ولاية الرئيس ترامب، وهو لا يؤثر فقط في الداخل بما في ذلك الانتخابات القادمة، بل يطال الأداء الخارجي لعدم القدرة على استئناف حوار منتج مع روسيا وسط الشكوك والتوتر في عدة ملفات آخرها فنزويلا والانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى.
حيال ما يشبه الانسداد الداخلي وما يشبه بدء مرحلة “البطة العرجاء” (تسمية تطلق على سيد البيت الأبيض في آخر ولايته) قبل موعدها التقليدي، ولأن ترامب وضع نصب عينيه دوما تنفيذ وعوده الانتخابية واستمرار كسب قاعدته الصلبة كي تكون نواة تأمين فوزه في ولاية ثانية، فإن كل هذا يقود إلى نوع من التجميد في المبادرات الرئاسية أو التجرؤ على مخاطر دبلوماسية نظرا إلى أن اقتراب موعد حملة التجديد ستنال تدريجيا كل اهتمام ترامب وتجعله حذرا في كل خطوة يمكن أن تصب في غير صالحه.
وهذا الوضع الدقيق ربما يفسر الكثير من تصرفات “رجل الأرقام”. في مؤتمره الصحافي الذي عقده بعد فشل قمة هانوي لم يبخل ترامب بتقديم جردة عن نجاحاته في “أخذ” ميزانيات إضافية لحلف الناتو من الأوروبيين، وعن مكاسب حروبه التجارية من دون أن ينسى الغمز من قناة حليفه الياباني ومكاسب تصدير سياراته نحو السوق الأميركية، أو من قناة حليفه الكوري الجنوبي الذي كان لا يدفع 100 مليون دولار كلفة التمارين العسكرية المشتركة معه.
وفق منطق يعتمد على دبلوماسية الأرقام والعلاقة الشخصية ولا يعطي وزنا للحلفاء تحت سقف “أميركا أولا” ينتقد مناهضو ترامب ما يصفونه بالسذاجة والاستفراد وعدم الإعداد الكافي للملفات، محملين الرئيس فشل قمة هانوي بعد مغالاته في “مغازلة” كيم جونغ أون الذي تحول من “الرجل الصاروخ” إلى “المحاور الصديق”. وللتذكير أنه بعد يوم على قمة سنغافورة، أكد رئيس الولايات المتحدة أنه “لم يعد هناك تهديد نووي من كوريا الشمالية”، إلا أنه اكتشف لاحقا أن كلا الجانبين لديه قراءة مختلفة عن كيفية نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية. وفي هانوي تمحور الخلاف حول شروط المقايضة والرفع الجزئي أو الكامل للعقوبات المفروضة على بيونغ يانغ مقابل تفكيك منشأة يونغبيون ومراكزها الأخرى.
بغض النظر عن التفسيرات المتباينة حول الفشل وهي بالطبع ليست تقنية أو مرتبطة بتوقيت زمني فحسب، بل تطال إجراءات بناء الثقة والضمانات الأمنية التي يطلبها الزعيم المتنقل في القطار المصفح كي تكون بوصلة استمرار حكمه وعدم تعرضه لمصير زعماء تخلوا عن أسلحة دمار شامل أو مصير ألمانيا الشرقية إذا دقت ساعة الوحدة الكورية من خلال الحفاظ على عناصر قوة ومساومة.
الواضح أن ترامب علل الآمال بنجاح كبير لقمة هانوي دون أن يأخذ في حسبانه وزن العوامل الإقليمية والدولية في بلورة تسوية ناجحة حول الأزمة الكورية. مع الحلفاء الآسيويين المعنيين ليست الأمور على ما يرام بين ترامب وشركائه، إذ يسود الحذر بين واشنطن وسيول التي تلعب سياسة “شعاع الشمس” وتستنهض الشعور الوطني، وكذلك بدت طوكيو متحفظة إزاء أي صفقة منفردة لأن صواريخ كيم مسلطة عليها وذكريات التاريخ الأليم حاضرة دوماً بين الطرفين.
ينسحب هذا التحفظ على الدول الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة التي تفضل أساليب الدبلوماسية المتعددة الأطراف في الرقابة على السلاح النووي، وتأخذ على ترامب تخليه عن الاتفاق مع إيران. وربما نجد في ذلك تفسيرا لعدم قبول ترامب اتفاقا كاملا مع كيم لأنه أخذ على سلفه باراك أوباما إبرام اتفاقية مع طهران لغير صالح واشنطن، ولا يريد لهكذا اتفاق أن يشكل نقطة ضعف انتخابية له.
تسري التعقيدات أيضا مع الصين الحامية لبيونغ يانغ، حيث تخوض معها واشنطن اختبار قوة حول الرسوم الجمركية ومن المنطقي ألا تنسى الصين استخدام ورقة كوريا الشمالية في القضايا الخلافية مع واشنطن، بدءا من مسائل التجارة، وصولا إلى التنافس في بحر الصين الجنوبي، مرورا بإشكالية تايوان. لذلك لن تسهل بكين وكذلك موسكو مهمة واشنطن من دون أثمان أو تهدئة في ملفات دولية أخرى، خاصة وأن المصالح الإستراتيجية لموسكو وبكين تفرض عليهما عدم السماح باستخدام القوة ضد بيونغ يانغ، حتى لا تتأثر موازين القوى في منطقة حيوية تمثل بالنسبة إلى كليهما.
ومن البديهي أن تخشى اليابان والصين وروسيا من احتمال توحيد الكوريتين يوما برضا وإسهام أميركيين، مما يقلب الموازين إذ أن شبه الجزيرة الكورية تعتبر أحد المفاتيح المهمة في الاقتراب من الصين المرشحة.
لن يسلم ترامب باستمرار زمن النكسة، ومن الأرجح أن يفتش عن مخارج لإعادة تعويم ما تبقى من ولايته بمبادرات من الصعب أن تكون مضمونة النتائج.