تعيش الحكومة حالة من التنافر السياسي على بعض الملفات والمواضيع الاجرائية، اسوة بباقي الحكومات السابقة والتي حكمتها صراعات سياسية على خلفية اثبات الوجود وتقدير الاحجام والاوزان وفرض القرارات، لكن برغم ذلك يبدو ان هذه الحكومة محكومة بقرار سياسي رئاسي كبير بمنع التعطيل، لسبب واحد وجيه هو ان المجتمع الدولي يراقب عن كثب هذه الحكومة وبات يريد التدخل في بعض نواحي عملها، لا سيما المتعلقة بتدابير تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» الاقتصادي، طالما ان هذا المجتمع ذاته سيمول مشاريع الحكومة التي اقرها المؤتمر الفرنسي..
ولهذا يبدو الرئيس سعد الحريري بشكل خاص كمن يمسك الجمر بيديه الاثنتين كونه المعني الاول، او بالتوازي مع رئيس الجمهورية، بنجاح الحكومة في كل اجراءاتها لإنهاض البلد من العثرات التي تلازمه وتؤثر على كل نواحي الحياة فيه، ولذلك يتعاطي الحريري مع كل الخلافات التي تطفو على سطح الحكومة بعقل بارد لتمرير المرحلة بأقل خسائر ممكنة ولو انه غير راضٍ عن كل ما يجري، ومنه اخيرا فتح ملفات الحسابات المالية، والتي طالت في جزء منها تياره السياسي وبعض رموزه الكبار ومنهم الرئيس فؤاد السنيورة.
واذا كان الرئيس السنيورة لم يقصر في الرد على ما اشار اليه نائب حزب الله حسن فضل الله حول ملفات الحسابات المالية الضائعة، فإن رده الاولي جاء سياسيا اكثر مما جاء تقنيا، ولو انه وعد بتحضير ملف عن كل الحسابات المالية ليرفعه الى رئاستي الجمهورية والحكومة لتبيان الخيط الابيض من الخيط الاسود، وهو امر كان يجدر به فعله منذ زمن بعيد لاقفال النقاش والسجال حول هذه الملفات باكرا قبل ان يستفحل كما هو الان.
ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا: كيف ستواصل الحكومة عملها بانسجام وتنجز ما وعدت به، اذا كان كل طرف سياسي سيكمن للطرف الاخر ويحاول التخريب عليه، واذا كانت عملية مكافحة الفساد اصبحت بمثابة «قميص عثمان» يحمله كل الاطراف ليرمي به الطرف الاخر ليحمله مسؤولية ظروف البلد الصعبة؟ وكيف سيتجاوز الرئيسان عون الحريري الكمائن السياسية الداخلية والخارجية المنصوبة للبنان، ومنها محاولات اسرائيل استغلال الانشغال الداخلي بأمور الملفات المفتوحة لسرقة نفط لبنان من البحر، واستغلال اطراف دولية اخرى حالة التوتر الدولية والاقليمية لفرض مزيد من الضغوط على لبنان عبر استخدام حالة «حزب الله» ذريعة من اجل «ترييح» اسرائيل اكثر؟
لا شك ان اوساط الرئيس الحريري ترى في فتح الملفات استهدافا مباشرا لما سُمي «السياسة الاقتصادية والمالية الحريرية» وبالتالي للرئيس الحريري شخصيا، مستندين الى ما سبق واثير حول موضوع الصلاحيات الدستورية سواء في تشكيل الحكومة او في ممارسة العمل داخل الحكومة. وحيث تشير هذه الاوساط الى ان «حزب الله» الذي اعتمد التهدئة الداخلية لضمان استقرار البلد، استثنى منها «تيار المستقبل».
لكن مصادر نيابية ووزارية مطلعة من «حزب الله» على موقفه من فتح الملفات، تقول ان الجو داخل مجلس الوزراء لم يتأثر من قضية فتح الملفات المالية، ولو ان الرئيس الحريري المح خلال الجلسة الاخيرة الى نوع من الامتعاض لتوقيت فتح الملفات، وركز على مفهوم حكومة الوحدة الوطنية بما يعني التضامن بين مكوناتها من اجل دينامية العمل فيها، لكنه لم يفتعل مشكلة حول الموضوع، فهو لديه معطياته التي يتعامل بها وفق ما يرى مناسبا حيال كل الامور داخل الحكومة وخارجها.
واضافت المصادر المطلعة: ان «حزب الله» مستمر في متابعة كشف ملفات الفساد والتجاوزات والمخالفات حتى نهايتها، ولن تغير حملة الردود حتى التي اعلنها بالامس الرئيس فؤاد السنيورة من هذا التوجه، لكنها تستدرك: ان الحزب لم يتهم السنيورة ولم يثر فقط ملف الاحد عشر مليار دولار، بل اثار كل الملفات المالية من الهبات الى سلف الخزينة الى الحسابات الاخرى في كل العهود، ومن المفروض على القضاء ان يتحرك في متابعة هذه الملفات ويتخذ الاجراءات الواجبة، وعلى الجهات المعنية بهذه الملفات ان توضح للقضاء تفاصيلها وتبرر اجراءاتها آنذاك، معتبرة انه من الخطأ ربما ان يضع الرئيس السنيورة نفسه سلفا بموضع الاتهام، ومن الخطأ ان يقوم «تيار المستقبل» بحملة مسبقة قبل تحديد القضاء موقفه.
وترى المصادر ان تأثيرات هذه القضية على أداء وسير عمل الحكومة لن تكون سلبية او كبيرة بما يؤثر على جو انطلاقتها في معالجة الملفات الاساسية المطروحة، وتقول: ان جميع الاطراف بمن فيها رئيس الحكومة تتعامل مع وضع الحكومة انطلاقا من ارتباط تشكيلها بمعادلات نتائج الانتخابات النيابية والتوازنات التي انتجتها الانتخابات، وبالتالي الكل محكوم بهذه الصيغة الجماعية للعمل الحكومي التي تفترض التوافق والتفاهم وعدم تعطيل الحكومة اذا كانت ثمة امور اخرى يتناولها هذا الطرف السياسي او ذاك.
وتسأل المصادر: لماذا يفترض ان تتأثر العلاقات الحكومية بفتح ملفات الفساد طالما ان الكل ينادي بهذا الامر؟ وهل كلما اعترض احد على فتح ملف يعتبر نفسه مستهدفا يجب وقف مكافحة الفساد والهدر في المال العام، خاصة انه لم يتم توجيه اي اتهام مباشر وواضح لأي طرف؟
وبرغم هذا التفسير للاوساط المطلعة على موقف «حزب الله»، فإن المرحلة المقبلة ربما تشهد مزيدا من التجاذب السياسي داخل الحكومة وفي المجلس النيابي، مع ان مصادر وزارية وسطية لا زالت تبدي تفاؤلها بتجاوز الازمة الجديدة، مستندة الى رغبة كل الاطراف في وضع قطار الحكومة على سكة المعالجات.