إذا كان شهاب مسؤولاً كلّياً أو جزئياً عن الاتفاق، والاتفاق مسؤولاً كلياً أو جزئياً عن خراب لبنان ومئات الآلاف من ضحايا الحروب المستمرة فيه منذ نصف قرن، فأيّ مسؤولية ثقيلة يتمّ إلقاؤها على ذاك الذي يعتبره كثيرون «قديس الجمهورية» وباني الدولة والإدارة والمؤسسات؟
ولكن، وفيما يوجّه الكاتب أصبع الاتهام إلى شهاب بالمسؤولية عن اتفاق القاهرة، العام 1969، فإنه يرسل إشارات أخرى تبرِّر خياره في مكان ما، لكنها في مكان آخر تتكفّل بإثبات الاتهامات.
هو يشير إلى أنّ شهاب كان مستاءً من اتفاق القاهرة، ومقتنعاً بأنه لا يراعي مصالح البلد. وفي معنى آخر، أظهَر الرجل نادماً على ما تسبَّب به. كما برَّر خيار شهاب باضطراره إلى استمالة الشارع الإسلامي في لبنان ومحاولة دفعه لينخرط أكثر في الخيار اللبناني.
في معنى آخر، هو استنتج أنّ شهاب لجأ إلى صفقة بينه وبين الزعيم المصري جمال عبد الناصر: يتنازل لبنان عن بعض الهوامش للعمل الفدائي الفلسطيني، في مقابل أن يمارس عبد الناصر «مَوْنته» على الشارع الإسلامي في لبنان ليتقدَّم أكثر في خيار اللبننة.
ويَستدلّ الكاتب إلى ذلك، واستناداً إلى وثائق وشهادات، حتى من أقرب المقرّبين من شهاب، كفؤاد بطرس وسامي الخطيب. فمخفر واحد بثلاثة دركيين كان قادراً على ضبط أيِّ مخيم فلسطيني في لبنان منذ العام 1948. ولكن، بعد هزيمة العرب في حرب 1967، تغيَّر نهج الفلسطينيين وأرادوا أن يعتمدوا على سلاحهم في مواجهة إسرائيل. وبعد الضربة التي تلقّوها في الأردن، في مواجهات «أيلول الأسود» عام 1970، كان الخيار، بتشجيع من القوى العربية والمعسكر السوفياتي، أن يتحرّكوا في لبنان.
ولكن، يُستشفّ من هذا التبرير أنّ طموحات شخصية، رئاسية، على أبواب انتخابات 1970، أضيفت إلى العوامل الخارجية والداخلية الضاغطة على لبنان، وأدت إلى التساهل والتغاضي عن تسليح الفلسطينيين ونموّ نفوذهم في لبنان والوقوع في فخّ اتفاق القاهرة.
فالبحث الذي أجراه الكاتب، وهو رسالة ماستر في التاريخ من الجامعة اللبنانية، استند إلى الإشكالية الآتية: ما مسؤوليّة الشهابية، وتالياً شهاب، عن تنامي قوّة التنظيمات الفلسطينية بحيث أصبحت في غضون أشهر، أمراً واقعاً قادراً على شلّ البلد، وفرض معادلات سياسية على لبنان... وهل من علاقة بين التساهل والاستحقاق الرئاسي في العام 1970؟
ويطرح الكاتب فرضيات عدّة:
1- إنّ نتائج الانتخابات النيابية في العام 1968، أضعفت الشهابيين في البرلمان وحملتهم على التساهل مع التنظيمات الفلسطينية، استرضاءً للكتلة النيابية المسلمة.
2- إنّ الاستحقاق الرئاسي سنة 1970 أرخى بثقله بقوّة على مجرى الأحداث، خلال العامين 1968 و1969، وأثّر في أداء قيادة الجيش والمكتب الثاني.
3- إنّ الخلافات المتراكمة بين الرئيس شارل حلو وسلفه شهاب جعلت الأخير، على الأقلّ، غير مهتمّ في مساعدته على حلّ مشكلاته مع رئيس الحكومة رشيد كرامي وقائد الجيش، للتمكّن من ضبط الوضع الأمني والسياسي في لبنان.
4- إنّ علاقة ملتبسة بين الجيش والتنظيمات الفلسطينية سبقت أزمة نيسان 1969 التي أدّت إلى اتّفاق القاهرة واستمرّت خلالها وبعدها، وحتى بعد إقالة قائد الجيش العماد إميل البستاني المتّهم بالتساهل، بسبب طموحاته الرئاسية.
تلقائياً، بتسليط الضوء على دور شهاب، يصبح حلو وأركان عهده في منأى في هذا الملف، علماً أنه هو نفسه جاء بدعم قوي من الشهابية.
فقد كان حلو رئيس السلطة التنفيذية والقابض على الصلاحيات الدستورية كافة في غياب الحكومة. وقائد الجيش العماد إميل البستاني هو الذي وقّع الاتّفاق عن الجانب اللبناني في العاصمة المصرية، في رعاية مباشرة من رئيس الجمهورية العربية المتّحدة جمال عبد الناصر.
وطوال أربعة عقود من الزمن، كان جميع الأطراف «مكْتَفين أو مرتاحين للانطباع العام بمسؤولية الرجلين، فيما كان حلو مهتمّاً بالدفاع عن نفسه عبر الاستحصال على فتاوى قانونية من مراجع لبنانية وفرنسية تُبيّن أنّ «اتّفاق القاهرة» ليس سوى ترتيبات أمنية لا تُلزم إلّا الحكومات التي تتبنّاها، وكذلك فعل البستاني».
ولكن، يقول الكاتب، «لفظت الأراشيف الأميركية والفرنسية أسرارها، بعد مرور الزمن المحدّد للإفراج عن الوثائق، كاشفة عن حقائق كثيرة غير معروفة متعلّقة بالفترة الواقعة ما بين العامين 1967 و1970، وبالظروف والمواقف المواكبة لتوقيع «اتّفاق القاهرة»، والتي من شأنها أن تبدّل في المعطيات والحيثيات السائدة. وهي تستند بشكل خاص على المراسلات بين كلٍّ من البعثتَين الديبلوماسيتَين الفرنسية والأميركية ووزارة الخارجية في بلدها».
وتُظهِر هذه المصادر «معطيات مهمّة عن أدوار ملتبسة متعلّقة بطموحات شخصية أو أوليغارشية خلال مرحلة الإعداد للانتخابات الرئاسية سنة 1970، تضاف إلى العوامل الطائفية والمطامع الإقليمية والظروف الدولية وتعقيدات الواقع الجيو-استراتيجي التي قادت لبنان إلى «اتّفاق القاهرة»، على الرغم من فداحة هذه العوامل والمطامع والظروف والتعقيدات الكبيرة، ودورها الذي ليس من السهل، القول إنّه كان في الإمكان الحؤول دون وطأتها على لبنان.
وإذا كانت حرب العام 1975 نتيجة حتمية لواقع لبنان الجيوسياسي، وتركيبته الاجتماعية والطائفية المتنوّعة، ولمغامرات اختلط فيها الشخصي بالعامّ».
وفي تقدير الكاتب، وكما يظنّ الكثير من الباحثين، فإنّ هذه المعطيات الجديدة تطرح تساؤلات حول «إمكان نجاح أو إنجاح النظام السياسي اللبناني في تأمين حكم رشيد مستقرّ وفي الوقت نفسه، تأمين المؤالفة بين مجموعاته الطائفية، وتحقيق المشاركة العادلة لكلٍّ منها في عملية إدارة الدولة وأجهزتها، وتحديد خياراتها المحلية والإقليمية والدولية».
في عبارة أخرى، المهم في كتاب سعد، الصادر عن دار «سائر المشرق»، أنه يقرأ الرئيس شهاب ومرحلة الاحتقان السابقة لحرب 1975 من زاوية جديدة، واستناداً إلى وثائق وشهادات. لكن الخلاصة الأقوى هي أنه يسلّط الضوء على عمق أزمة الكيان اللبناني وتشققاته السياسية والطائفية والمذهبية الخطرة، وتحدّي السقوط أو الاستمرار.