ألقى العلامة السيد علي فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية: "عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين علي واليه مالك الأشتر عندما أرسله إلى مصر لتولي أمورها، فقال له: "ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك، وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع.. (أي لا يساعدك على ما كره الله مما لك ميل فيه ورغبة به)، وألصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على ألا يطروك (عودهم على أن لا يزيدوا في مدحك)، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، (يفرحوك بنسبة عمل عظيم إليك ولم تكن قد فعلته)، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو (أي العجب)، وتدني من العزة (أي تقرب من الكبر)، لا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة، فألزم كلا منهم ما ألزم نفسه (أي أن المسيء ألزم نفسه استحقاق العقاب، والحسن ألزمها استحقاق التكريم).
وقال :" لقد أراد الإمام علي من خلال هذه التوجيهات أن يبين لواليه من يقرب إليه، فدعاه إلى أن يقرب إليه الناصح الأمين الذي يقول الحق له حتى لو كان مرا، ومن لا يساعده على ما كرهه الله له ويرغبه فيه، وأن لا يصغي إلى المداحين والمغالين به، لئلا يحدث ذلك من نفسه زهوا وتكبرا، مما ينسيه حقيقة نفسه، وأن يثيب المحسن على إحسانه، ويجازي المسيء على إساءته، فلا يكونان عنده على حد سواء".
أضاف: "إننا أحوج ما نكون إلى مثل هذه النماذج، لنواجه بها صعوبات الحياة وتحدياتها.
والبداية من لبنان، حيث يتابع اللبنانيون باهتمام بالغ المسار الإصلاحي الذي أجمعت القيادات السياسية على الدعوة إليه، وقد اعتبرته الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان من الانهيار ولإعادة الاعتبار إلى صورته.لقد شعر اللبنانيون بارتياح أمام هذه الاندفاعة الإصلاحية التي بدأت بملف التوظيف العشوائي وغير القانوني، والمالية العامة للدولة، وملف عدم تطبيق القوانين، وعزز من هذه الاندفاعة إصرار المجلس النيابي على مواكبة التحقيق في هذه الملفات، وممارسة أقصى درجات الرقابة على أداء السلطة التنفيذية في مكافحة الهدر والفساد".
وتابع :" من المؤسف أن هذا الشعور اللبناني العام بالارتياح سرعان ما اصطدم ببعض ردود الفعل المشككة بأهدافه وغاياته، وما أثارته من إرباكات وتشويش في أوساط الرأي العام، بالحديث عن استهداف سياسي أو طائفي أو مذهبي في فتح هذا الملف أو ذاك، كان اللبنانيون ظنوا أنها ولت إلى غير رجعة. إننا أمام ذلك، نرى في العودة إلى إثارة الحساسيات المذهبية والطائفية في مقاربة المواقف التي تشير إلى فساد هنا أو هدر هناك أو تقصير هنالك، أمرا لا مبرر له، وقد يضع أصحابه في دائرة الشبهات. إننا في الوقت الذي نرفض أية اتهامات مسبقة لأي شخص أو فريق، تنطلق من أية خلفيات سياسية أو مذهبية أو طائفية أو تصفية لحسابات ذات بعد داخلي وخارجي، نرى أن جميع اللبنانيين يعرفون أن الفساد الذي تعترف كل القوى السياسية بوجوده لم يهبط علينا من الفضاء، وأن هناك من يتحمل المسؤولية في هذا المجال".
وتابع: "ولذلك، ندعو، ومن منطلق الإنصاف والعدالة والحرص على متابعة ما انطلق أو ما يراد البدء به من محاربة الفساد، وعلى استقرار البلد، إلى أن يتم التعامل مع هذا الملف الشائك والحساس بشفافية وموضوعية، وبعيدا كل البعد عن الاستنسابية بفتح ملف هنا وعدم فتحه هناك، بل أن تفتح كل الملفات والمستندات، وأن تكون اللغة هي لغة الأرقام، بعيدا عن الإعلام والسجالات التي تتسبب بشحن الأجواء، والقاعدة هي: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فلا نستعجل الأحكام والاتهامات، وإذا كان من رد، فليكن الرد فيه بالمستوى نفسه، وبالمستندات والوثائق والأدلة الدامغة، بعيدا عن كل الإثارات التي نحن بغنى عنها، وليكن القضاء النزيه العادل هو الحكم فيها.
واوضح " إننا مع كل اللبنانيين، لا نريد لفتح ملفات الفساد أن يكون سببا في زيادة أزمات البلد، بل أن يساهم في حلها، ونريد من كل المواقع السياسية التي ترفع سيف مواجهة الفساد، أن تكون حكيمة في إدارة هذا الملف والتعامل معه، وأن تكون حازمة، بحيث تطال كل مواقع الفساد والفاسدين، وبنفس طويل، لأن مواجهة الفساد المتفشي في مفاصل الدولة لن يحسم بسهولة أو خلال زمن قصير. ويبقى الأساس لبلوغ ذلك هو إزالة الشوائب من القضاء وحمايته من كل التدخلات السياسية أو المالية أو الضغوط التي قد يتعرض لها، وهي موجودة، فلا حل لمشكلة الفساد من دون قضاء نزيه وعادل وحر.
وقال :" ليس بعيدا عن هذا الملف، تبرز ظاهرة الحوادث الكثيرة على الطرقات، حيث نشهد العديد من الضحايا يوميا، وعلى مختلف الطرقات اللبنانية، والتي يعود السبب فيها إلى السرعة الزائدة وعدم توفر سبل السلامة في الطرقات.
إننا وأمام هذا الواقع الذي نعرف جميعا آثاره ونتائجه، ندعو المعنيين إلى الإسراع في معالجة الأسباب التي تؤدي إليه، بتشديد الرقابة على المخالفات، سواء في السرعة الزائدة، أو في الأخذ باحتياطات الأمان، أو في تهيئة الطرقات، سواء من ناحية الإضاءة أو من ناحية إزالة العوائق. إن الفساد لا يقف عند حدود هدر المال، بل أيضا بما يسبب "هدر" الأرواح والنفوس وإزهاقها".
وختم: "إلى فلسطين، حيث استطاع المقدسيون أن يحققوا إنجازا بكسرهم الأقفال التي كان الاحتلال يضعها على باب الرحمة، والتي استمرت لستة عشر عاما، وهذا ما شكل ضربة موجعة له، عبر عنها بالاعتقالات التي طاولت قادة الأوقاف الإسلامية والعشرات من المقدسيين وحراس المسجد الأقصى.إننا نحيي هذه الإرادة الصلبة التي تشير إلى مدى تضحيات هذا الشعب الذي يستمر في جهاده، وبكل الوسائل، رغم معاناته في الداخل وعدم وجود تفاعل من الشعوب العربية والإسلامية معه. ونبقى في فلسطين، لنشير إلى القرار الذي صدر عن مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، والذي أوصى بإرسال لجنة للتحقيق في ارتكابات العدو الصهيوني خلال مسيرات العودة السلمية في غزة.. إننا نرى في ذلك إيجابية، نأمل أن تستكمل بتجريم العدو على ارتكاباته من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ولو لمرة واحدة".