سرعان ما تراجع الانسجام الذي راهن عليه رئيس الحكومة سعد الحريري، ورأى فيه خريطة الطريق التي تتيح للبنان الإفادة من مؤتمر «سيدر» للنهوض من أزمته الاقتصادية، وتحوّل فجأة ومن دون سابق إنذار إلى كيل الاتهامات وتبادل الحملات السياسية والإعلامية على خلفية مكافحة الفساد في الإدارات وهدر المال العام. وانبرى «حزب الله» بلسان نائبه حسن فضل الله إلى شنّها مستهدفاً في الأساس، كما تقول مصادر في تيار «المستقبل» لـ«الشرق الأوسط»، المشروع الاقتصادي لرئيس الحكومة الشهيد رفيق الحريري، الذي استند إليه لإعادة إعمار ما هدّمته الحرب.
وطبيعي –حسب المصادر نفسها- أن يصوّب «حزب الله» في معركته ضد الفساد وهدر المال العام على رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة باعتباره أحد أبرز الصقور في «المستقبل» وكانت له مع الحزب جولات من الخلاف السياسي.
لكن تركيز «حزب الله» في حملاته على الرئيس السنيورة ينسحب أيضاً على الرئيس الحريري في محاولة لإضعافه وصولاً إلى «تطويعه» مع تسليم الحزب بأنْ لا بديل له، حتى إشعار آخر، على رأس الحكومة، رغم أن السنيورة يدحض هذه الاتهامات وسيقول كلمته في مؤتمره الصحافي الذي يعقده غداً.
وهناك من يربط توقيت حملة «حزب الله» ولو بصورة غير مباشرة على السنيورة بأنها تأتي في سياق استعداده لسحب وحداته العسكرية من سوريا على مراحل، وبالتالي هو في حاجة ماسّة إلى قضية «شعبوية» لمحاكاة اللبنانيين الذين لا يختلفون حول ضرورة مكافحة الفساد في ظل ارتفاع العجز في الخزينة وتزايد الدين العام. إضافة إلى أن الحزب، كما تقول مصادر «المستقبل»، يحاول أن ينزع عنه لباسه العسكري ويستبدل به لباساً مدنياً لإشعار الآخرين بأنه أخذ على عاتقه أن يتحول إلى رأس حربة لمكافحة الفساد.
وإذ تتجنّب المصادر في «المستقبل» الرد بالأرقام على ما صدر عن فضل الله وتترك الأمر للرئيس السنيورة، تؤكد في المقابل أن الحزب هو آخر من يحق له الخوض في هذا المضمار، وتعزو السبب إلى وضع يده على الأملاك العامة والمشاعات في المناطق التي يسيطر عليها، ولا يحرّك ساكناً لوقف عمليات التهريب من سوريا إلى لبنان وبالعكس، إضافة إلى أنه كان وراء تعطيل البلد وشلّه بدءاً من اعتصاماته المتكررة في بيروت، إضافة إلى حملاته السياسية المنظّمة ضد عدد من دول الخليج التي أدت إلى امتناع رعايا هذه الدول عن زيارة لبنان، والتي دفع ثمنها القطاع السياحي.
وتسأل المصادر عما أصاب الدولة واللبنانيين من جراء حروب «حزب الله» المتنقلة في الداخل والاستقواء بسلاحه على اللبنانيين، إضافة إلى تفرُّده في اتخاذ قرار الحرب والسلم. وترى مصادر مواكبة لفتح ملف الفساد أن «حزب الله» وإن كان يستهدف «المستقبل» فهو في المقابل يريد توجيه رسالة إلى حركة «أمل» بأنه من الآن وصاعداً لن يقبل إلا أن يكون شريكاً لها في السلطة التنفيذية وفي التعيينات الإدارية، علماً بأنه أراد من خلال الانتخابات النيابية الأخيرة تمرير رسالة واضحة أنه تفوّق على حليفه بالصوت التفضيلي.
وتلفت المصادر نفسها إلى أن «حزب الله» يركّز في حملاته على السنيورة ومن خلاله على المشروع الاقتصادي للرئيس الراحل رفيق الحريري في محاولة لإبلاغ نجل الأخير الرئيس سعد الحريري بأنه لن يتركه يرتاح في الشارع السنّي، خصوصاً أنه كان وراء تمثيل المعارضة السنيّة في الحكومة.
وبكلام آخر، تؤكد المصادر أن محاولة الحزب إيهام الرأي العام بأنه لا يستهدف الحريري من وراء حملاته على السنيورة لا تنطلي على أحد، لأن «المستقبل» يتعامل معها على أنها تهدف إلى «مقاضاة» الحقبة السياسية التي شغلها الرئيس الراحل رفيق الحريري ومن خلالها الدخول في تصفية حسابات مع نجله، إضافةً إلى أن الحزب يريد أن يقدّم نفسه على أنه الحريص الأول على المال العام، لعله ينتزع براءة ذمّة من اللبنانيين الذين يحمّلونه مسؤولية الركود الاقتصادي الذي يصيب البلد.
كما أن الحزب -حسب المصادر- يريد الرد على العقوبات الأميركية التي تستهدفه بتبييض الأموال ورعايته المباشرة لشبكات التهريب بتوجيه رسالة بأنه من أشد الحريصين على حسن إدارة المال العام ومكافحة الفساد.
لذلك، فإن الاشتباك السياسي بين «المستقبل» و«حزب الله» لن يقف عند هذه الحدود، بل هو بداية للجولات الخلافية التي أطلت برأسها فور ولادة الحكومة، مع أن الرئيس الحريري على قراره تنظيم الاختلاف مع الحزب الذي يحكمه «ربط نزاع» بين الطرفين لأن ما يهمّه تحصين الساحة الداخلية والاستعداد لإنجاز أوراق الاعتماد للبنان التي تؤهله للإفادة من مؤتمر «سيدر» مع وصول مفوض الحكومة الفرنسية بيار دوكان إلى بيروت، والذي سيواكَب بتكليف منها ما أُنجز حتى الآن من مشاريع وإصلاحات كانت قد طلبتها الدول والمؤسسات المالية والدولية المشاركة في هذا المؤتمر برعاية مباشرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع الإشارة إلى أن الأطراف في لبنان مجمعة على وجود فساد وهدر لا بد من مكافحته، وأن يترك الملف للقضاء بدلاً من إقحام البلد في تراشق إعلامي يزيد من الاحتقان المذهبي والطائفي.