مع بداية ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود، بدأ توجه واضح لتضييق الخناق على الرئيس رفيق الحريري. انطلق لحود عهده مدعوماً بالأجهزة الأمنية، أو ما كان يسمى "النظام الأمني اللبناني السوري" حينذاك، بادعاء مكافحة الإرهاب. استخدُم العنوان لتصفية الحساب مع رفيق الحريري. وحينها أُبعد الحريري عن رئاسة الحكومة، وجيء بالرئيس سليم الحص بديلاً منه. وبدأت عملية التطويق، بسلسلة إجراءات وقرارات بإقالة وإبعاد ومحاكمة بعض الشخصيات، من موظفي الفئة الأولى في الإدارات العامة، المحسوبين على الحريري.
محرقة برج حمود والافتراء
فُتح الهجوم على الحريري ما قبل انتخابات العام 2000. بدأت تلك الحملة بعنوان مكافحة الفساد، وفي حينها تم زج العديد من المقربين أو المسحوبين على الحريري في السجون. وقد طاولت تلك الحملة آنذاك فؤاد السنيورة، باتهامه بقضية محرقة برج حمود. لبنان، في الفترة التي سبقت هذه الحملة، كان قد قرر شراء محرقة، وتم توقيع الاتفاق على شرائها. لكن، فيما بعد، لم يكمل لبنان الصفقة. كان هناك بند جزائي في الاتفاقية مع إيطاليا، ينص على وجوب دفع المال المستحق في حال فسخ العقد. في مجلس الوزراء، تم التصويت على دفع الأموال، والجميع صوّت موافقاً باستثناء السنيورة، الذي رفض التصويت، لكنه نفّذ القرار. وعلى الإثر بدأت حملة إعلامية واسعة تنال من السنيورة، حول كيفية دفعه الأموال لمحرقة غير موجودة، فتم الكشف عن محضر جلسة مجلس الوزراء، ليتبين أن السنيورة كان وحده ضد القرار، ومن صوتوا مع القرار هم الذين شنّوا الحملة على وزير المال حينها.
راهناً، المشهد واضح، وفيه استعادة لتجارب سابقة، من اختلاق ملفات لتصفية حسابات مع المحور السياسي ذاته. الغاية السياسية حالياً أبعد من أي غاية أخرى، لا سيما أن التحرك يأتي بعد استشعار حزب الله بعودة نفوذ السنيورة داخل "تيار المستقبل"، مع عودة بعض الشخصيات المحسوبة عليه، كريّا الحسن في وزارة الداخلية، وعمار حوري كمستشار لدى الحريري. والرئيس سعد الحريري نفسه يشعر بحاجة ماسة إلى السنيورة، في مختلف المجالات، السياسية والتقنية، خصوصاً أنه استفاق على ثلاث صدمات مثّلت صفعات له، أولها قرار المجلس الدستوري بإبطال نيابة ديما جمالي، ثانيها المسار الذي سلكته جلسة مجلس الوزراء الأولى، والمواقف التي أطلقها رئيس الجمهورية ميشال عون حول الصلاحيات وتحديد مصلحة لبنان، وثالثها الحملة على السنيورة من خلال الأحد عشر ملياراً، والتي يرى فيها الحريري أنها مقدّمة لاستهدافه.
"طيبة القلب" لا تنفع
كان ردّ بيان كتلة المستقبل قاسياً وواضحاً، سواء في مسألة صلاحيات رئيس الحكومة، أو على خلفية التعرّض للسنيورة. ووجد الحريري نفسه غير قادر على المسايرة أكثر. كما لا يمكنه التخلّي عن السنيورة، لما يمثّله من رمزية لدى الجمهور السنّي. وأي استهداف للسنيورة إن تلكّأ الحريري في الدفاع عنه، سيصيب رئيس الحكومة بالمزيد من الخسائر، خصوصاً أن الحريري كان يتعاطى مع هذه الملفات من بوابة عدم التدقيق، وتمريرها من دون أي احتساب أو توقّع. يعيد البعض ذلك إلى "طيبة قلب" الحريري في السياسة، وبأنه حين يدخل باتفاقات يكون صادقاً، ويتوقع من الآخرين أن يكونوا مثله صادقين. وحين جرت التسوية على خلفية إقرار الموازنة من دون قطع حساب، ظن الحريري أن الملفات لن تُفتح مجدداً. هكذا، مضى بالتسوية، ليكتشف حالياً أن العقدة قائمة بما يشبه الكمين .
تعود المشكلة إلى ذاك اليوم الذي تمّت فيه الموافقة على الموازنة من دون قطع حساب، على نحو مهّد الطريق أمام ضرب السنيورة. الموافقة على تلك الموازنة واعتبارها إنجازاً للعهد، والتي كانت بدافع استعجال الحريري لإبرام التسوية وإنجاحها، هي التي فتحت الطريق أمام إعادة تصفية الحساب مع السنيورة. واستهدافه بما يمثّل، سيتطور حتماً إلى استهداف للحريري. وهذا ما دفع بالأخير للوقوف إلى جانب السنيورة، لتجنب المزيد من الخسائر.
فتح ملف الأحد عشر ملياراً لا يقلق السنيورة. وهو يؤكد أن كل عملية صرف مسجّلة ومدققة وموجودة، والمشكلة معروفة، إذ كان يتم إرسال موازانات إلى مجلس النواب، لكن رئيس المجلس كان يرفض استلامها. الصرف على القاعدة الإثني عشرية، كان يتم وفق موازنة العام 2005، لكن الفارق في السنوات، هو الزيادة في النفقات، بالرواتب والأجور، وتكلفة الدين، والكهرباء وغيرها من الملفات.
التخوين والتسويات
يفتح حزب الله ملف الهجوم على السنيورة، لتطويع كل اللبنانيين، وهي حملة تشبه إلى حدّ بعيد الحملة التي شنّها النظام الأمني اللبناني السوري على رفيق الحريري، ما بين عامي 1998 و2000. وهي نفسها تكررت ما قبل اغتيال الحريري بين عامي 2004 و2005. بعد حرب تمّوز 2006، بدأ حزب الله حملة سياسية واسعة على حكومة السنيورة حينذاك، وجرى توجيه الاتهام للرجل بأنه عميل إسرائيلي وأميركي، وبأنه نهب أموال إعمار الضاحية والجنوب. كان الهدف هو تحقيق انقلاب سياسي كبير، والإطاحة بحكومة السنيورة من خلال التظاهرات الحاشدة. وحتى مسألة عرقلة الموازنات لوقف عمليات الصرف، كانت غايتها إيصال حكومة السنيورة إلى العجز عن دفع الرواتب، ودفع الأمور بالبلد إلى عصيان مدني ووظيفي، تطيح بالحكومة. لكن السنيورة وجد آلية الصرف وفق القاعدة الإثني عشرية، لتأمين مستلزمات الإدارات والموظفين وغيرها من المستحقات.
استمرّ الانقسام إلى العام 2008، بعد أحداث 7 أيار. طوال تلك الفترة، كان حزب الله يركّز هجومه على خصومه بوصفهم عملاء فاسدين، لكن في لحظة التسوية عاد الحزب، متناسياً الاتهامات، وجلس معهم على الطاولة نفسها، وأبرم معهم التسويات. فيظهر أن كل تلك الحملات وكل التلويح بـ"الملفات"، كان غرضها تعزيز الخطاب السياسي لتطويع الخصوم، أو استخدامها للتعبئة والتحريض الشعبوي.
ملف الفساد يشبه إلى حدّ كبير فتح ملفات أخرى، كتخوين قوى 14 آذار ووصفهم بالعملاء، وفيما بعد الجلوس معهم على طاولة واحدة وإبرام التسويات، بعد تمكّن الحزب من تحقيق شروطه. وهذا دليل آخر على استخدام هذه عبارة "الملفات" لتصفية الحسابات، وجرّ الخصوم إلى تقديم التنازلات. وهنا، بالعودة إلى السنيورة، نذكر كيف أنه أثناء حرب تموز 2006، كان "حكومة مقاومة" (حسب وصف بري له)، وكان هو من استنجد به حزب الله لتدبير وقف إطلاق النار، وهو من خاض أكبر معركة دبلوماسية لصوغ القرار 1701، بما يوائم حزب الله، ومنع إدارجه تحت بند الفصل السابع، وأقنع المجتمع الدولي أن سلاح حزب الله مسألة لبنانية داخلية مرتبطة باتفاق الطائف، ويناقش في حوار وطني.
تهمة الداعشية!
بعد تسوية الدوحة، وتشكيل حكومة الحريري، فُتح ملف شهود الزور والمحكمة الدولية، أُسقطت حكومة الحريري بتلك الذريعة، وشكّل حزب الله حكومته برئاسة نجيب ميقاتي. وغاب مع تشكيلها ملف شهود الزور من التداول، ليتبين أيضاً أن إثارة الملف كانت مقدّمة لتحقيق غاية سياسية، وهي الانقلاب على الحريري، فذهب الشعار بذهاب حكومته. وفي فترة اندلاع الثورة السورية، استمرّ الهجوم على المستقبل باتهامه بدعم المعارضة السورية، وفيما بعد تطور الاتهام ليصبح المستقبل، وفق الدعاية السائدة من قبل الحزب والتيار الوطني الحرّ، بأنه الحضن الآمن للإرهاب، أو داعش الذي يرتدي كرافات. كان الخطاب السياسي في مكان، والفعل السياسي في مكان آخر، خصوصاً على طاولة الحوار بين المستقبل وحزب الله، والذي أفضى في أحد جوانبه إلى التسوية الرئاسية، التي مثّلت اتفاق إذعان من قبل الحريري والتسليم لحزب الله بكل ما يريده. هكذا، كان حزب الله والتيار الوطني الحرّ يتهمان المستقبل باحتضان الإرهاب والداعشية، ويدخلان معه، بالوقت ذاته، في حوارات للوصول إلى تسويات.
الانصياع أو المواجهة
هي تسوية دفع الحريري بموجبها الكثير من رصيده، خسر الأكثرية النيابية مع حلفائه، عبر اضطراره للسير بقانون نتخابي يستهدفه. كما خسر الكثير من رصيده الشعبي، وخسر حلفاءه الأساسيين لصالح التحالف مع التيار الوطني الحرّ. وعندما كاد يضحّي بالقوات اللبنانية والحزب الاشتراكي لصالح التقارب مع التيار، حتّى وقعت "الضربات الثلاث" الآنفة الذكر، وآخرها فتح "ملف الفساد" واستهداف السنيورة وما يمثله من مقدّمة لاستهدافه مباشرة.
الأسلوب واضح، والمسار أوضح. السيناريو المبتدئ منذ عهد لحود إلى اليوم. ويبقى الحريري في الواجهة، إما أن يسير وفق الضغوط والإملاءات ويبقى منصاعاً، أو يرفض الانصياع ويعود إلى المواجهة لتحقيق التوازن.