تمثل سياسة المواجهة التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه طهران، تحدياً حقيقياً للنخبة السياسية الإيرانية، إذ تهدف سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في إعادة فرض العقوبات الاقتصادية، أقصى قدر من الضغط على إيران، من أجل إحداث تغيير في السلوك في سياستها الإقليمية. لكن عقوبات ترمب ليست مبرراً للرئيس الإيراني حسن روحاني لعدم التزامه بوعوده الانتخابية، من حيث منح مزيد من الحريات وإجراء إصلاحات اقتصادية، كما أنها ليست السبب الوحيد لضعف روحاني.
فقد وجد الرؤساء الإيرانيون منذ عهد محمد خاتمي، أن قوتهم تتضاءل في ولايتهم الثانية تجاه المرشد علي خامنئي، ويصبح الرئيس غير ذي أهمية سياسية في صنع القرار. ووضع روحاني اليوم سيئ جداً، فهو في حملته عام 2013 وعد بالاعتدال وبتحسينات اقتصادية كبيرة واستثمارات أجنبية غربية. بعد ذلك تفاوض ووقع على الاتفاقية النووية المتعددة الأطراف؛ لكن هذه الاتفاقية تعرضت لانتقادات شديدة من قبل الصقور في إيران، باعتبارها خطوة غير ضرورية وخطيرة، وتؤدي إلى إقامة علاقات أوثق مع الغرب. ومنع المحافظون روحاني من التفاوض مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، بشأن قضايا غير البرنامج النووي، مثل السياسة الإقليمية الإيرانية، وبرنامج الصواريخ الباليستية، أو إعادة إقامة علاقات دبلوماسية.
لكن ضعف روحاني لا يشكل تهديداً للنظام الإيراني، الذي يعتمد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية بدلاً من شرعيته الشعبية، لضمان بقائه، ثم إنه من مصلحة خامنئي والأجهزة الأمنية أن يكون الرئيس ضعيفاً، ولا يحظى بشعبية، إذ لا يعود بإمكانه تهديد سلطة خامنئي.
لكن من ناحية أخرى، تزيد العقوبات الأميركية من تفاقم التوترات الإقليمية بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وشركائها من جهة أخرى، وتخلق بيئة غير مستقرة. ومن المحتمل أن يؤدي مزيد من العزلة الدولية إلى نظام سياسي أكثر استبداداً في إيران، وأكثر قمعاً في السياسة الداخلية، مع ميل إلى المغامرات السياسية والعسكرية في السياسة الخارجية.
لكن من المرجح أن تواجه إيران الراديكالية تحدياً أكبر في إرضاء الإيرانيين المتطلعين إلى مزيد من الانفتاح والاستقرار الاقتصادي. وفي حين تقوض العقوبات قدرة النظام على الاستجابة لمطالب الشعب، فإن التهديد الحقيقي والوشيك لإيران ليس سياسة إدارة ترمب؛ بل الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعددة، التي فشل النظام في حلها منذ ثورة 1979.
يعتقد البنك الدولي أن إعادة فرض العقوبات الأميركية ستدفع الاقتصاد الإيراني إلى الركود، والتوقعات أن يتقلص الاقتصاد بنسبة 1.6 في المائة في 2018 – 2019، و3.7 في المائة في 2019 - 2020. وكان التضخم قد بلغ 20 في المائة العام الماضي، وسيصل إلى 30 أو 40 في المائة هذا العام، ويرجع ذلك إلى تكلفة الواردات، وهذا أمر مثير للقلق بشكل لافت.
ومع ذلك، من غير المرجح أن تغير هذه المشكلات المعيشية في السلوك الإقليمي للنظام، فهو لا يتحرك بالعقلانية الاقتصادية؛ بل بالعوامل الآيديولوجية، وأهمها تصدير الثورة، إذ توفر إيران نحو 700 مليون دولار سنوياً مساعدات لـ«حزب الله» في لبنان، و100 مليون دولار لحركة «حماس» في غزة، وكان رد الفعل على العقوبات التأكيد على سياسته الآيديولوجية المتشددة، فوسع أكثر من تدخلاته الإقليمية، الأمر الذي أدى وسيؤدي إلى تعريض رفاهية الشعب الإيراني للخطر.
وتبقى السياسة الخارجية الإيرانية قائمة على تفاهم براغماتي مع روسيا والصين، والبحث عن طريقة للتعايش مع الدول الأوروبية، للحد من سلبية العلاقات العدائية بينها وبين واشنطن.
الإيرانيون المتضررون - وهم كثر - يقولون إن روسيا والصين هما أكثر من يهدد رحلة إيران نحو الحرية والديمقراطية، وقام النظام لإطالة أمد وجوده ببيع مصالح إيران إلى هذه الدول، وإن عصر الاستعمار الجديد ليس احتلالاً بالقوة؛ بل بالاقتصاد.
يقف الناس في طوابير طويلة لشراء حاجياتهم، في حين تعتبر إيران من أكبر مصادر الطاقة، بالإضافة إلى السكان المثقفين، وبنية تحتية لائقة إلى حد ما؛ لكن الشعب يعاني بسبب سياسات النظام الاقتصادية والخارجية.
يخبرني أحد الإيرانيين، أنه يتم تصدير الماشية الحية بشكل منهجي من إيران، ويحدث هذا في الوقت الذي يبحث فيه الشعب عن الطعام في سلة المهملات، أو يقف في طوابير لساعات، فقد يحالفه الحظ في الحصول على بعض اللحم الذي لا يؤكل بأسعار لا تستطيع الأغلبية تحملها. ويضيف أن راتب 10 أيام يصرف لوجبة طعام لأربعة أشخاص: «إن النظام يصدر طعامنا وأدويتنا. لقد عاقبنا النظام منذ 40 عاماً، والآن أصبح أشد قسوة من أي وقت مضى لأننا ندعو إلى تغييره».
ويوجه الإيرانيون رسائل إلى الأوروبيين، يقول محدثي: «إننا نُقتل بطريقة منهجية بسبب الانتهاكات والنهب وتدمير بيئتنا المعيشية. لا يمكن الدفاع من الناحية الأخلاقية والقانونية أو بأي طريق أخرى من أجل التعامل مع نظام الملالي نيابة عن الشعب الإيراني. إن أوروبا تقف ضد الشعب، وتتجاهل حقوق 80 مليون إيراني. من يفعل هذا يكون شريكاً في الجريمة».
مع ذلك، فإن التوترات التي سببتها إدارة ترمب وضعت الدول الأوروبية في وضع غير مريح؛ حيث أدى انسحاب كثير من الشركات الأوروبية الخاصة من السوق الإيرانية، إلى انخفاض التجارة المتبادلة بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي، بنسبة 60 في المائة. وقد لا تنجح الآلية التي تعمل عليها دول الاتحاد الأوروبي لتجاوز المقاطعة الأميركية، وهذا ما يعرفه المتشددون في إيران، فهم بعد إضعافهم روحاني وجهوا سهامهم إلى محمد جواد ظريف وزير الخارجية، بحيث عملوا على تهميشه بالكامل مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، يوم الاثنين الماضي، فحل مكانه لدى استقبال روحاني للأسد الجنرال قاسم سليماني، رئيس «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، وكأن ظريف في كل جولاته وصولاته الأخيرة، عاد خاوي الوفاض، حتى من لبنان الذي تعتقد إيران أنها قادرة على التحكم به وبيعه بضاعتها بالليرة اللبنانية. واجه ظريف المعاملة الفظة بالاستقالة، رغم أنه جزء من النظام موكل بدور مناورة الغرب ومراوغته.
في النهاية، إن إيران ممزقة بين الرغبة في الاندماج في الثنايا الاقتصادية للغرب، وبين الاستمرار في آيديولوجيا ثورية تشكل فيها المعارضة للغرب عناصر أساسية في هوية الجمهورية الإسلامية. هذه التناقضات تمنع تطوير سياسة خارجية تتماشى مع المصالح الوطنية الإيرانية. إن النظام الآن يواجه تعبئة شعبية تشجب سياساته، لذلك يستخدم الخطاب الثوري لإخفاء عدم قدرته على تحسين الحكم المحلي، ومكافحة الفساد وعدم المساواة.
إن الاضطراب الداخلي هو تذكير للقادة الإيرانيين بضرورة تغيير سياستهم، هذا الاضطراب أكثر خطراً بالنسبة لبقاء النظام من التوجه الثابت ضده من قبل إدارة ترمب.