قبل اللقاء ـ العشاء مع رئيس الحكومة سعد الحريري، هو غير ما بعده. فجأة همدت «ثورتُه» وعادت «الدنيا زهريّة». محى كل ما سبق وأدلى به بشحطة قلم. لا أحد يدري كيف إنفجر بركانُه، كذلك لا أحد يعلم كيف انطفأ. ما هو معلوم أنّ «بيك المختارة» اختصر الطريق، وصوّب إحداثياته للمرة الثالثة، نحو «بيت الوسط»، لإداركه جيّداً أنّ «تركيبة» علاجات أزماته، هناك.
يجيد جنبلاط قراءة الأحوال المحيطة، ويعرف أنّ الغيوم الملبّدة في المنطقة لا تتحمّل خوض «حروب» مجانية أو كبرى. لا بل من الأفضل حماية الرؤوس في زمن التحوّلات المفصلية.
ولن تكون من مصلحته «معاداة» حكومة «التفاهمات المكبرة» في لحظات انطلاقتها الأولى، فيما الانتخابات النيابية على مسافة ثلاث سنوات، إن لم يكُن أكثر. أما الرئاسة، فمن الجنون حرقُ القضايا الحياتية في «جحيمها». فيما صار للعهد على كتفَي المختارة نائبان ووزير. ولهذا يحرص «البيك» على إحتساب كل رصاصة يطلقها وفي أيّ اتجاه.
لم يتكبّد جنبلاط كثيراً من العناء ليسوّي خلافاته مع الحريري، وتجاوز «هفوة باريس 3»، و«الطعن بالتلزيمات بالتراضي»، ليعلن هدنة غير مشروطة مع محيطه. هكذا لم يعد «الطائف» مهدَّداً، ونزل «صاحب الجلالة» عن عرشه، وبات «جَشع» البعض مقبولاً. ولا ضير إن «أصبحت البلاد وثرواتها في يد الخواجات الجدد وشركائهم من رحم الجيش الأميركي أو فضلاته».
عملياً، يقول أحد المطّلعين إنّ أزمة جنبلاط تنقسم إلى قسمين: قسم يتصل بمصالحه التجارية ربطاً بقطاعي الغاز والنفط، وآخر يتصل بالتعيينات الإدارية.
إذ إنّ حكومة «إلى العمل» موعودة بإجراء سلّة من هذه التعيينات إدارية وقضائية وأمنية قد تكون «تاريخية» نظراً الى ضخامة حجمها واتّساع محاورها.
فيما يخشى جنبلاط حصول اختراق للمعادلة التي كانت تحمي وضعيته في التركيبة الحاكمة، وبالتالي عدم حصر الحصّة الدرزية به، أسوة بما كان يحصل سابقاً، وذلك ربطاً بما يعتبرها حملةً يشنّها «التيار الوطني الحر» ضدّه، فيما رئيس الحكومة يغضّ الطرف عنها.
ويبدو، وفق المعلومات، أنّ الحريري نجح في تهدئة غضب «حليفه القديم» وإقناعه بجدوى الحوار لحلّ كل الخلافات. ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ زعيم المختارة قد يضع يده على كل التعيينات الدرزية.
ويتخوّف الفريق الدزري في المقابل من أن يكون «الجنبلاطيون» يخططون لممارسة دور «القاشوش». وهم يحاولون تجاوز وجود خصم سياسي لهم من خلال القول إنّ تنازلهم عن المقعد الوزاري الثالث لا يعطي هذا الفريق حقّ الشراكة في توظيفات الفئة الأولى وما يعادلها.
إلّا أنّ هذه النظرية لا تمنع الإرسلانيين من القول صراحة إنّ التعيينات تمر في مجلس الوزراء، وبالتالي هي تستدعي التفاهم بين مختلف الأطراف، لأنّ التصويت هو «أبغض الحلال».
واذ ينفي هؤلاء علمهم في حصول تفاهم نهائي بين الحريري وجنبلاط لتجيير الحصّة الدرزية لمصلحة الأخير، يجزمون أنّ السلّة المنتظرة لن تكون أحادية الجانب، وانما ستحصل بالتشاور، وقد نبّه ارسلان في الأمس «من خطورة الاستمرار في هضم حقوق المذاهب القليلة في العدد».
أما أبرز التعيينات الدرزية فهي، رئاسة أركان الجيش، قيادة الشرطة القضائية، قاضي التحقيق في المحكمة العسكرية، وكل مجالس الإدارة التي تضمّ بين أعضائها دروزاً.
قبل لقاء المصالحة في «بيت الوسط»، كان جنبلاط يعيد ترميم الجسور مع الجبهة العونية، معلناً مدّ يده لوزير المهجرين غسان عطالله «لطيّ صفحة حرب الآخرين نهائياً»، فكان الأخير في مرصاد التلقّف السريع في لقاءٍ ودّي وصريح كما وصفه «سيد كليمنصو»، الذي قرّر ملاقاة «ابن الشوف» إلى خطّ الوسط.
وبالفعل، تشير المعلومات إلى أنّ اللقاء تناول مختلف الشؤون المشتركة، وأهمها ملف المهجرين وأسلوب لعب الوزير «المشاغب» على «مسرح الجبل».
اللافت أنّ المضيف كان ايجابياً إلى أقصى الحدود، لا بل داعماً في كل ما أثير، ومستعداً لتقديم كل التسهيلات. حتى إنّ جنبلاط قال لعطالله ما حرفيته: «نحن متكلون عليك في القيام بما لم نستطع القيام به».
وحسب المعلومات فقد تحدثا في كل تفاصيل الملف، وكان توافقاً على أنّ الوزارة ليست في صدد تكبير حجر دورها أو الاستيلاء على صلاحية وزارات أو هيئات أخرى من باب تنفيذ مشاريع إنمائية كمشاريع البنى التحتية، خصوصاً وأنّ موازنتها، حتى اللحظة، لا تسمح بهذا الترف.
الأهم من ذلك كله، هو أنّ عطالله بنفسه كان ينتقد وزراء المهجرين المتعاقبين، على «التمدّد» في دورهم، وها هو «دولاب الزمن» يدور ليطلب جنبلاط من الوزير الحالي الاكتفاء بالصلاحيات الأساسية.
إلى ذلك، أثير أيضاً ملف الترميم المنجَز الذي يُعتبر قنبلة موقوتة، أو منجمَ ذهب، خصوصاً أنه عادة ما يستخدم لإتخامه بطلبات وهمية من باب التنفيعات الانتخابية أو المناطقية. جنبلاط بنفسه اعترف بحصول الهدر في الفترات السابقة، خصوصاً أنه تمّ وعد الناس بـ»شيكات بلا رصيد»، أما الوزير الحالي فيكتفي بالقول «إنّ البابَ ليس مقفلاً على إمكانية درس الملفات المستحقة».