وُضع ملفّ حسابات الدولة، للأعوام 1993 حتى الـ2003، على رأس جدول أعمال القوى السياسية. وبعد أن قرّر تيار المستقبل استباق أي تحقيق في الملفّ، عبر التهويل وتحويل نفسه إلى «ضحية سياسية لحزب الله»، حسم رئيس مجلس النواب الأمر بأنّه مُصر على استكمال الملفّ حتى النهاية، فيما يتصرّف الرئيس الأسبق للحكومة، فؤاد السنيورة، وفق قاعدة «كاد المريب أن يقول خذوني»!
مادّة النقاش السياسية في البلد، منذ أيام، هي التحقيق في حسابات الدولة. استحوذ الملفّ على اهتمام القوى السياسية، ويبدو أنّه تحوّل إلى بندٍ رئيسي على جدول الأعمال. مسار الأمور لا يوحي بوجود نيّة لسحب «حسابات الدولة» من التداول، أو الاتجاه إلى طمس الملفّ، على الرغم من «الحرب الاستباقية» التي قرّر تيار المستقبل شنّها، و«تهديد» رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة بعقد مؤتمرٍ صحافي قبل ظهر غد للردّ على ما لم يُتَّهَم به. الطريقة التي تعامل بها تيار المستقبل مع القضية، وتحويلها إلى اشتباك سياسي - من جانب واحد - مع حزب الله، يدلّ على أنّه أول الساقطين في مشوار «مكافحة الفساد». فتيار رئيس الحكومة سعد الحريري، كان من بين الذين ساروا في «موجة» مكافحة الفساد، بأسلوب شعبوي. ولكن، ما إن تكوّن ملفّ يتعلّق بالحسابات الضائعة والمتلاعَب بها لأعوام ما بين الـ1993 والـ2013، وتدور حوله شبهات فساد وسرقة، انبرى لتحويل مسار القضية إلى غير وجهتها الأساسية. والطريق الأسهل لذلك، في «اختلاق» معركة مع حزب الله. تناسى تيار المستقبل أنّ مجلس النواب ألزم وزارة المال، خلال إقرار موازنة الـ2018، إعداد الحسابات المالية للدولة، وإنجازها قبل 20 تشرين الأول الماضي. كذلك عملت «المالية» منذ الـ2014 على إنجاز الحسابات المالية، وقد انتهت منها العام الماضي. تبين لوزارة المال أنّ حسابات الدولة (بين الـ1993 والـ2013) كانت غير دقيقة، وأن أموالاً اختفت، وأن مستندات ضاعت، وأن مبالغ مالية كبيرة لم يُعرف كيف أُنفقت.
في كلّ هذه الفترة، لم يكن لحزب الله دخلٌ في الملفّ. دوره اقتصر على المطالبة بإحالة «حسابات الدولة»، التي انتهت وزارة المال من إنجاز تقاريرها حولها، على المجلس النيابي، وتحويل الملفّ إلى مجلس النواب والقضاء لمحاسبة المخالفين. خلال مؤتمره الصحافي، لم يتهم النائب حسن فضل الله السنيورة «بجرم الفساد»، كذلك فإنّه لم يُعلن معركة ضدّ تيار المستقبل، بل طالب بما تُعلنه كلّ القوى السياسية، وبما ينص عليه القانون: الكشف عن أموال اللبنانيين، ومحاسبة المتورطين. فلماذا قرّر «المستقبل» تحويل نفسه إلى «ضحية»، وتحوير القضية إلى «حربٍ» ضدّه؟ ولماذا تجاهل وجود قانون، صدر بموافقته، يُحتّم إحالة الحسابات المالية على مجلس النواب؟ ولماذا يكاد السنيورة «أن يقول خذوني» رغم أن احداً لم يتهمه بإهدار المال العام وإهمال واجباته؟ ولماذا يضع النائب السابق نفسه في موقع يبدو فيه كمن يبحث عن حصانة سياسية بعد خروجه من جنة الحصانة النيابية؟
يوم أمس، ترأس رئيس مجلس النواب نبيه برّي اجتماعاً لكتلة التنمية والتحرير، بحضور وزراء حركة أمل، متناولاً ملفّ حسابات الدولة. وطلب برّي من وزير المال علي حسن خليل الإسراع في إتمام الإجراءات اللازمة من أجل إرسال التقارير إلى مجلس النواب، مؤكداً ضرورة استكمال هذه القضية حتى النهاية. فردّ خليل بأنْ لا يزال هناك «إجراءات شكلية» بحاجة إلى استكمالها، مؤكداً أنه سيعقد مؤتمراً صحافياً، قريباً، لشرح المسار الذي ستسلكه قضية الحسابات. كذلك جرت مناقشة «الحسابات المالية» خلال لقاء الأربعاء النيابي، فنقل النواب أنّ «برّي مُصرّ على الإكمال بالملفّ حتى النهاية، لأنّ ما قبل جلسة الثقة ليس كما بعدها، وقد أصبح الموضوع مِلكاً للرأي العام». وأكد برّي أنه سيدعو إلى جلسة في النصف الأول من آذار لانتخاب مجلس محاكمة الرؤساء والوزراء، تليها جلسة تشريعية في اليوم ذاته». وأعاد بري التأكيد أن مجلس النواب في المرحلة المقبلة سيعقد شهرياً جلسات تشريعية، أو لمساءلة الحكومة. وبالنسبة إلى برّي «لا توجد إهانة على الإطلاق في طلب أي وزير للمساءلة أو التحقيق في أي ملفّ من الملفات».
وفي الملفّ المالي نفسه، قال رئيس لجنة المال والموازنة النيابية إبراهيم كنعان (الذي سبق أن أثار، منذ عام 2010، مسألة التلاعب بحسابات الدولة وأعدّ بناءً على ذلك كتاب «الإبراء المستحيل»): «سأراجع القضاء المختص فور انتهاء جلسات الاستماع حول تقريري الخدمة المدنية والتفتيش المركزي في ملف التوظيف كما في الحسابات المالية، ولن أنتظر السياسة ومنابرها واجتهاداتها». وكان كنعان قد ترأس أمس اجتماعاً للجنة، استمعت فيه إلى وزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان بشأن تقريري التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية عن التوظيف، وستستمع في جلسة لاحقة إلى وزير الصحة جميل جبق. وكشف كنعان، بعد الجلسة، عن توجيه كتابٍ إلى ديوان المحاسبة «للتحقيق ووقف الصرف عن المخالفين في ملف التوظيف بموجب المادة 86 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة». وأكّد كنعان ضرورة «استكمال ما لم تقم به الحكومة، الذي بدأناه مع التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية، وهو بحسب المادة 21 من القانون 46 المسح الشامل الذي يُبيّن الوظائف في الملاكات، لجهة أعدادها والحاجة إليها، في ضوء عدم تقييم الملاك منذ الاستقلال». وقد تبيّن في التعداد الأولي الذي قامت به لجنة المال والموازنة، بحسب رئيسها، وجود «15200 شخص بين موظف ومتعاقد، جرى التوظيف أو التعاقد معهم خارج إطار التوصيف الوظيفي، وهو يشكّل مخالفة للقانون يجب أن تتوقّف». وقال كنعان إنّ هناك «من لا يتعاون مع التفتيش ولا يعطي الأرقام بالشكل المطلوب للتفتيش. نسبة التعاون أقلّ من 10%»، مضيفاً أن اللجنة طلبت من التفتيش المركزي «إعادة قراءة للأرقام بالتعاون مع مجلس الخدمة المدنية للحصول الأسبوع المقبل على تحليل عمّن هم خارج الأصول القانونية، بالإضافة إلى الخطة الشاملة التي كانت ملحوظة في المادة 21 من قانون السلسلة والتي لم يُعمَل بها، لجهة كيفية إعادة هيكلة الملاك العام، لتحديد من يعمل ومن لا يعمل».