في دار الفتوى لا «صوت يعلو فوق صوت المعركة»... إنها معركة انتخابات «المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى»، التي من المفترض إجراؤها الأحد المقبل.
التراجع عن الانتخابات، في نظر «الدار»، شائعات «منتهية الصلاحيّة». فالاستحقاق بات «قاب قوسين أو أدنى» من تحوّله إلى واقع. يحسم مفتي الجمهورية الشيخ محمّد رشيد قباني الأقاويل، ويؤكد لـ«السفير» أن «لا رجوع عن الدعوة إلى انتخاب «مجلس شرعي» جديد، بحسب الأصول والقوانين المرعيّة الإجراء»، فهم اعترضوا سابقاً أنني لم أنشر لوائح الشطب، أما اليوم (وبعد أن نشرتها) فعلى ماذا يعترضون؟».
سيناريو فقدان النصاب من بعض أقلام الاقتراع أثناء إجراء الانتخابات موجود في حسابات قباني، ولكن بسرعةٍ فائقة ينتشل من جعبته القوانين التي تلحظ هذه الحالات، ليشير إلى أن «عندما لا يتوفّر النصاب في قلمٍ أو آخر فإن العملية الانتخابيّة سوف تكمل مسارها، لتجرى بعدها انتخابات فرعية، تماماً كما هو الحال في الانتخابات النيابيّة».
بالطبع، إن أخبار المنسحبين من انتخابات المجلس تصل إلى أذني مفتي الجمهورية الذي يعتبره «عملاً ديموقراطياً»، ولكنه مدرك أن هذه الانسحابات المتزامنة ليست بريئة، وإنما «تدلّ على وجود ماكينة سياسيّة لتعطيل الانتخابات والإبقاء على «المجلس الشرعي» الحالي».
بعد مراجعة دقيقة تبيّن لفريقه أن «البعض قدّم طلبات الترشّح بغية الانسحاب في ما بعد، ليقال إن المرشحين ينقصون وأن المفتي وحده».
وبرأي قباني فإن «تياراً سياسياً يدير هذه اللعبة ضدنا، وهناك أصحاب نفوذ يشنون حرباً على بعض الموظفين الشرفاء مهددين إياهم بلقمة عيشهم وبتعليمهم، كما أن البعض الآخر قدَّم إليه وعوداً وإغراءات»، لافتاً الإنتباه إلى أن «من ضغط على هؤلاء لسحب ترشيحاتهم يتحمّل مسؤولية قانونيّة وشرعيّة».
حين يجلس المفتي يتأمل ما له وما عليه، على عتبة يومين من «ربيع دار الفتوى»، يصل إلى نتيجة وحيدة هي أن المضيّ في الاستحقاق هو إنجاز بحد ذاته. لا يقولها قباني بالفم الملآن، لكنه يشدّد على أن «التغيير والحلّ الحقيقي لوحدة المسلمين سوف يكون بعد إجراء هذه الانتخابات وإعلان نتائجها»، آملاً أن يجري هذا الاستحقاق على أعلى مستويات الديموقراطية.
الحديث عن أن المفتي لا يحقّ له الدعوة إلى انتخابات المجلس، لا يزعج مفتي الجمهورية وإنما يعود قباني إلى حقبات كلّ المفتين الذين سبقوه، منذ أيام المفتي الشهيد محمد حسن خالد وحتى المفتي محمّد علايا، في دعوتهم إلى الانتخابات، متسائلاً: «هلّ كلنا مخطئون».
ويضيف: «إن الدعوة إلى الانتخابات هي عمل إجرائي من صلاحية مفتي الجمهورية وفق نصوص المرسوم 18/1955، ولا يخضع لآراء وتجاذبات من هذه الجهة أو تلك، أو حتى أعضاء «المجلس الشرعي» المنتهية ولايتهم والممددة زوراً».
بلغة حازمة يؤكد قباني «هذه صلاحياتي وأنا أعرفها جيداً، وهم يريدون أن ينازعوني فيها، وهذه ليست المرة الأولى التي أدعو فيها إلى انتخابات»، مشيراً إلى «أنني منذ رأستُ هذه الطائفة أخذت على عاتقي إجراء هذه الانتخابات التي هي واجب دار الإفتاء تجاه مصالح المسلمين».
بلا أدنى شكّ يرى «ساكن عائشة بكار» بأم العين أن الشحن التحريضي ضده يجرى على قدمٍ وساق، ولكنه لا يرتعد خوفاً بل يريد أن يستمرّ و«يكمل في مواجهة هذه الآلة التخريبيّة ـ الهدامة».
من معك؟ يفكّر ملياً في السؤال، فهو يعلم أن الجميع خذله، ولكنه لا يتّهم أحداً بأنه تخلى عنه، كلّ ما يقوله: «إنني مع الله، وكلّ المسلمين المخلصين المتمسكين بالحق والحريصين على دار الفتوى معي».
يؤخذ عليه أنه لم يدع إلى انتخابـــات المجلس إلا في العام 2012، غير أن المفتي يملك «رواية الحقيقة»، فالمجلــس الشرعي الذي انتخب في العام 2005 انتهت ولايته في العام 2009، ثم قمنا بالتمـــديد له ثلاث مرات متتاليات، ولكن إذا مددنا له في المرة الرابعة نكون بذلك خرقنا القانون خرقاً صارخاً، إذ أن التمديد في المرة الرابعة يكون كمن مددنا له ولاية ثانية.
عندما يعاد على مسمع كلمة «ساكن عائشة بكار» أنه متّهم بإحداث انقسام في الطائفة السنية، ترتفع «علامات التعجب» على ملامحه. ويقول: «أنا أقوم بواجبي وألتزم بالقوانين المرعيّة الإجراء، فكيف اتهم أنني أحدث انقساماً داخل الطائفة؟»، مشدداً على أن «من يقف وراء التمديد للمجلس ويعرقل سير العمليّة الانتخابيّة، هو الذي يقسّم الطائفة ويعطّل التجديد في المؤسسة الدينيّة الأمّ للمسلمين».
يتوجّه قباني إلى الذين يزعمون المحافظة على مؤسسات المسلمين بأن «يكفوا عن عرقلة دعوتي إلى الانتخابات»، يجزم «ليس لديّ مرشحون أدعمهم لا سابقاً ولا لاحقاً، ولا أتدخّل في الهيئة الناخبة، كلّ ما أريده هو القيام بواجباتي وإحداث التغيير والتحديث في الدار»، متسائلاً: «هل التغيير المنشود يتحقّق من خلال الإبقاء على المجلس الحالي الذي مضى على انتخابه أكثر من ثماني سنوات؟».
«حرب شرسة» يخوضها قباني، ولكن لا همّ عنده سوى «منع تمرير مشروع وضع دار الفتوى تحت وصاية الساسة»، بل أكثر «لن أسمح بذلك، تماماً كما رفضه المفتي حسن خالد، حتى لو لحقناه إلى الشهادة».
يقصد قباني ما يسمى بـ«مشروع الإصلاحات» المنوي إدخالها إلى المرسوم 18، مؤكداً أنه «ليس اجتهادا فرديا وإنما يأتي في إطار محاربة الاعتدال الديني وتقييد صلاحيات مفتي الجمهورية، فنحن المعتدلون وهم المتطرفون».
لا يخفي الرجل أنه «لا بدّ من تعديل المرسوم لأنه مضى عليه أكثر من نصف قرن»، لكنه يتوقّف عند هذا المشروع «المسمّى بمشروع الإصلاحات»، معتبرا «انها إصلاحات لا يوجد فيها لا تطوير ولا تحديث».
لا يلتفت المفتي الذي «يقاتل على كلّ الجبهات»، وراءه، غير أنه يعرف أن الجميع مستعدّ لـ«شراء ذرائع» لأخذها عليه، بغية تمرير ما يسمونه بـ«الإصلاحات غير الدينيّة» التي يريدها أحد السياسيين.
ينتفض قباني عندما يسمع أحدهم يقول إنه ينوي تمديد ولايته، حتى ولو ممازحاً، ليؤكد «أنني لم أسع لها منذ البداية فكيف أريدها بعد أن انتهت ولايتي، ولن أبقى لحظة واحدة بعد انقضاء هذه الولاية».
بنظره إن «هذه الفرضية» تستخدم لـ«تضليل الناس»، فهم يتهمونه بما يرتضوه على أنفسهم هي أشبه بـ«ذرّ الرماد في العيون» ويتهمونه بما يرضونه لأنفسهم. في حضرة الكلام عن التمديد، تستحضر المفتي آية قرآنية: «إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً».
أما عن إمكان إقالة مفتي الجمهورية، فيقول: «إن الذين يلوّحون بذلك لا يمثّلون إلا أنفسهم لأنهم ظنوا أنفسهم جمهور المسلمين وظنوا أن المفتي متمسّك بمنصبه، تماماً كما هم الذين يتمسكون بمناصبهم ويقاتلون من أجلها، وهم لا يعرفون معنى أن «الرجال تعرف بالحقّ لا أن الحقّ يعرف بالرجال».
ولكن من يسمع مفتي الجمهورية يتحدّث يتأكد أن الإقالة لن تنزل «برداً وسلاماً» على هؤلاء الذين يسعون إليها، إذ يشير قباني إلى «أنني، سواء كنتُ في موقعي أو لم أكن، فالمفتي سيبقى هو هو ولن يغيّر مواقفه». وإذ يوضح أن «هناك الكثير من السياسيين الذين نحترمهم ونقدّرهم»، فإن «البعض الآخر منهم يتصرّفون كما وكأنهم يبيعون ويشترون في سوق النخاسة السياسيّة».
بالطبع إن التمديد لنفسه ليست «التهمة الوحيدة» التي يروّجها البعض ضدّ مفتي الجمهوريّة، وإنما «الملف المالي» هو كـ«قميص عثمان» الذي يحضر كلما «حشر» خصوم المفتي. وعن هذا الملف، يشدّد على أن «الحديث عن هذا الملف هدفه الإفتراء والتشويه لشخصية المفتي بغية تعطيل مهامه وصلاحياته وإخضاعه لوصايتهم».
ولمن يصرون على التشهير به من باب اتهام نجله الشيخ راغب بما يسمونه «الإختلاس المالي»، يقول قباني: «إذا كان لديهم من دليل فليشهروه، فإنني براء مما يقولون».
أما لمن يتهمه بأنه أخذ دار الفتوى إلى «8 آذار»، فلا يكتفي قباني بالنفي، وإنما يؤكد «لست سياسياً بل أنا مفت لكلّ المسلمين، أما التصنيفات بأني من «8 أو 14 آذار» فهي أمر يتبادله الفريقان، بينما أنا لم ولن أكون إلا مع مصلحة لبنان».
وعن الفتنة السنيّة ـ الشيعيّة، ينصح قباني «أبنائي في قيادتَي «حزب الله» و«المستقبل» أن يبتعدوا عن خطاب التحدي الذي تارةً ما يصدر عن الفريق الأوّل وتارة أخرى عن الثاني، ويشحنون الشارع بمقدّمات هذه الفتنة»، ناصحاً القيادتين أن «يتقوا الله في الشعب اللبناني وفي ناسهم ووطنهم، وأن يستعيضوا عن الخطاب التحريضي والإستئثاري بالخطاب الذي يقرّب وجهات النظر»، مشيراً إلى أن «الحلول الوطنية مكانها الحكومة ومجلس النواب وليس الشارع».
يتمنى «ساكن عائشة بكار» للرئيس المكلّف تمام سلام التوفيق بمهامه الوطنية الجديدة، ويشدّد على «أننا مع موقع رئاسة الحكومة، أيا كان شاغلها، فكيف إذا كان «ابن بيروت» هو الرئيس العزيز على قلوب اللبنانيين، ولا سيما البيروتيين».
أما عن علاقته مع الرئيس نجيب ميقاتي فيقول قباني: «إنني أكن المحبة من جهتي للجميع، وإننا وقفنا معه تماماً كما وقفنا مع غيره من قبل»، مشيراً إلى أن «علاقتنا كانت ممتازة إلى أن اختلفنا، لأن حساباته السياسية حتّمت عليه تمرير مشروع السيطرة على دار الفتوى»، مشيراً في المقابل «أنا ليس لديّ حسابات سياسية وإنما واجب شرعي أؤديه للمسلمين».