بعد 13 الى 14 سنة من وراثة سعد الحريري الإرث السياسي لوالده الشهيد، وبعد نجاحه أخيراً في استعادة “تيار المستقبل” من منافسيه داخله وبعضهم كان جزءاً من الإرث أيضاً، وفي تحقيق فوز معقول وإن غير ساحق في الانتخابات النيابية الأخيرة، ثم في ترؤس حكومته الثالثة، بعد ذلك كلّه صار لزاماً عليه أن يُثبت لمناصريه ومؤيديه ولأخصامه ولأعدائه داخل “شعبه” السنّي و”الشعوب” اللبنانية الأخرى أموراً عدة. أولها أنه تعلّم من تجارب السنوات المشار إليها المتعلقة بالسياسة داخلاً وخارجاً، كما المتعلقة بالجانب غير السياسي من الإرث الكبير الذي حصل عليه. وثانيها أن ابتعاده عن السياسة في حياة والده وانغماسه فيها بعد استشهاده كانا من أسباب فشله في إدارة الارثين. وربما شفع له ذلك عند مؤيّديه اللبنانيين وعند داعميه في المنطقة والناظرين ايجاباً الى تجربته في العالم. لكن الآن لم يعد هناك أحد قادر على الشفاعة له إذا مُنيت تجربته الحكومية الثالثة بالفشل الذي ضرب حكومتيه الأولى الثانية، واذا لم يبرهن للبنانيين مؤيّدين ومتعاطفين وأنصاراً وأخصاماً وأعداءً أنه يمتلك عقلاً استراتيجياً، قادراً على تحليل المعطيات المتنوعة والمعلومات التي يفترض أن يحصل عليها جرّاء موقعيه السياسي أولاً والحكومي ثانياً، وعلى تقويمها وتالياً على استشراف المستقبل القريب والأبعد، وقادراً أيضاً على اتخاذ القرارات اللازمة وإن صعبة. ولن يجد من يتشفع له أيضاً اذا سمح للفساد الذي يعم البلاد من فوق ومن تحت و”بين البينيْن” كما يُقال أو لشبهته باجتذابه، من أجل تعويض خسائر ضخمة تسبّبت فيها طيبة قلبه التي ورثها عن والده وصعوبة المرحلة التي بدأ فيها احترافه السياسي.

 

هذا كله من حيث المبدأ، أما من حيث التموضع السياسي للرئيس سعد الحريري فإن معلومات المتابع الجدّي نفسه لحركة الجهات السياسية في البلاد على تنوعها، تشير الى أن قراره هو الاستمرار في العلاقة الجيدة والتعامل أو بالأحرى التعاون، رغم صعوبة اعتباره تحالفاً على الأقل حتى الآن، مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ورئيس “التيار الوطني الحر” الذي أسّسه وصهره الوزير جبران باسيل. وتشير أيضاً الى أن أحداً لا يعرف اذا كانت ستبقى على هذا النحو أو تتعمق وتتمتّن أكثر أو ستصاب بنكسات. فبيان “تيار المستقبل” الذي وصف تقرير المجلس الدستوري الذي أسقط نيابة عضو في كتلته البرلمانية ديما جمالي بالخيانة والغدر، أثار تساؤلات كثيرة ورسم علامات استفهام كثيرة. فمن هو الشخص أو السياسي أو الحزب أو المرجع الذي غَدَرَ وخان؟ علماً أن جزم البيان بالأمرين يدلّ على امتلاك معلومات موثّقة تؤكد ذلك. فضلاً عن أن تصرف الرئيس الحريري في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء بعد تأليف الحكومة التي انعقدت “برئاسة رئيس الجمهورية وحضور رئيس الحكومة والوزراء”. وكان انقلاباً بكل المقاييس على اتفاق الطائف والدستور المنبثق منه، واستعادة لنظام كان تغييره أحد أسباب اندفاع مسلمي لبنان على تنوّعهم وتناقضهم نحو الحرب عام 1975، فضلاً عن أن تصرفه، وكان صمتاً مطبقاً، أثار تساؤلات جهات شعبية وسياسية عدة. فهل فوجئ بهذا الموقف؟ وماذا كان رأيه فيه؟ وهل أطلعه رئيس الجمهورية عليه قبل ذلك نظراً الى علاقتهما “الجيدة” حتى الآن؟ وهل فكّر في المواجهة الفورية احتراماً لصلاحياته؟ أم امتنع عن ذلك إما حرصاً على العلاقة ورغبة في مناقشة الموضوع لاحقاً بعيداً من الاعلام، وإمّا عجزاً عن المواجهة؟ وهل سيستمر الرئيس عون في منهجه الجديد الذي يبشر بنظام رئاسي لا بد أن تشوّهه التركيبة المتنوعة لشعب لبنان بل لشعوبه؟

 

في أي حال تشير معلومات المتابع نفسه الى تساؤلات عدة تطرحها مع نفسها جهات سياسية لبنانية عدة متناقضة في السياسة داخلاً وخارجاً ومختلفة الأديان والمذاهب، ليس عن رئيس الدولة بل عن من بدأ اللبنانيون يعتبرونه وليّ عهده الوزير باسيل. منها هل “يلعب هذا الأخير على الحبال” في السياسة الداخلية المرتبطة بالسياستين الاقليمية والدولية؟ فهو من جهة يتبنى وبشراسة مواقف حلفائه “حزب الله” وراعيته بل المشاركة في تأسيسه إيران الاسلامية ونظام الرئيس بشار الأسد ويدافع عنها في المحافل الخارجية. لكنه من جهة أخرى يدلي بمواقف بين حين وآخر تبدو مناقضة لها، ويقوم بتحركات ويجري اتصالات أثارت ولا تزال تثير شك حلفائه الذين أوصلوا رئيسه الى رئاسة الدولة. ولم يدفع ذلك طبعاً الحلفاء الى سلبية علنية ونهائية لأنهم في حاجة الى استمرار الحلف مع مسيحي قوي، لكنه دفعهم الى التحوّط الشديد والمزيد من الاستعلام والتهيئة لاتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب. ومن المواقف المشار اليها، يقول المتابع أن باسيل لم يكن متحمساً يوم بدأت حرب تموز 2006 لاتخاذ عون موقفاً منها مندداً بإسرائيل وداعماً “الحزب”. لكن رئيسه وعمّه قرّر بعد أيام قليلة الوقوف الى جانب “الحزب” بكل ما يستطيع وأعلن ذلك في بيان رسمي. طبعاً التزم باسيل لكن “تشكّكه” في جدوى هذا الموقف استمر أياماً قليلة. والمضحك – المبكي هنا هو اعترافه في لقاء مار مخايل في ذكرى توقيع اتفاق 6 شباط مع “الحزب” بأن المقاومة وحزبها أوصلاً عون الى قصر بعبدا، وذلك صحيح، وتأكيده أن وقوف “تياره” مع الحزب في حرب تموز مكّنه من الانتصار فيها وذلك غير صحيح. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف؟