بإستقالة وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف، تطوي منطقة الشرق الأوسط مرحلة "التفاوض الإيراني". انتصر خيار المحافظين في إيران على حساب خيار الإصلاحيين. إيران كلّها سلّمت واستسلمت لقائد فيلق القدس قاسم سليماني. انتهت مرحلة جواد ظريف والمفاوضات مع الغرب، لإعادة إنتاج اتفاق نووي جديد. وتستعد المنطقة للدخول في مرحلة جديدة فيها الكثير من التطورات، والمفاجآت أيضاً.
سلطة المحافظين
وصول ظريف والرئيس حسن روحاني إلى الحكم في إيران، كان بعد جولات متعددة من المفاوضات مع القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. يومها، كانت إيران بحاجة إلى تخفيف حدّة التوتر مع الغرب، الذي أجّجه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. من يحكم في إيران هو "نظام كامل متكامل" ولا يمكن أن يتغيّر النهج بتغيّر شخص أو مسؤول. لكن تبديل الأشخاص عادة ما يكون مؤشراً على التهدئة أو التصعيد، وليس بالضرورة تغييراً للنهج. في حقبة فوز روحاني وظريف، كانت إيران هادئة، مفاوضة، وتحقق أهدافها الاستراتيجية في سوريا ولبنان والعراق، عبر التوسع أكثر في أعماق هذه الدول وجغرافياتها. ولكن بالاستناد إلى التفاوض مع الغرب.
اليوم تغيّرت الظروف، واستقالة ظريف، تأتي في سياق التعبير عن فشل الخيار التفاوضي، الذي ترفضه واشنطن، والمستمرّة بإجراءاتها التصعيدية. هذا ما عزز سلطة المحافظين، وغلّب خيار الحرس الثوري الإيراني. في كلا الحالتين، لا تتراجع إيران عن السعي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ما يتغيّر هو الأسلوب. ويوم لمع نجم ظريف، كان النتاج متوقعاً سلفاً، وتجلّى بصورته على شرفة أحد فنادق لوزان، ملوّحاً بانتصار طهران، لحظة التوقيع على الاتفاق النووي. كانت إيران وقتها تتعاطى ببراغماتية مع إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، المهجوس بتحقيق انتصار تاريخي، وهو توقيع الاتفاق مع الإيرانيين. تغاضى أوباما عن كل ما عدا هذا الملف، وتسلّمت إيران في حقبة التفاوض كلاً من سوريا والعراق ولبنان، وفتحت معركة اليمن. حتّى أن التسوية الرئاسية في لبنان، كانت آخر تداعيات الإنسجام الأوبامي الإيراني.
رصيد ظريف ومستقبله
فوز روحاني وظريف، جاء بعد انفتاح إيراني على الأميركيين، واستعداد الإيرانيين للانقلاب على نهج نجاد، حدثت زيارة لافتة في تلك الفترة من قبل جيفري فيلتمان إلى إيران، ولقائه بالسيد علي خامنئي. وكانت اللحظة مفصلية، على إثر التلويح الأميركي بالردّ على مجرزة الكيماوي في الغوطة. في ذلك اللقاء تم التأسيس لمرحلة التسوية الكبرى بين إيران وأميركا. وفرضت طهران شروطها، بعدم التفاوض على ملفات غير الملف النووي، مقابل بقائها على نفوذها في مناطق الشرق الأوسط.
منذ فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية، تغيّر المشهد بشكل جذري، اختار ترامب التصعيد إلى أقصى الحدود مع إيران. بينما بقي ظريف يحاول تمرير الرسائل الإيجابية للتفاوض، وصولاً إلى حدّ الاستعداد لتقديم تنازلات لصالح الأوروبيين في مسألة الصواريخ البالستية، أو في قضايا تبييض الأموال. وهذا ما كان مرفوضاً بشكل قاطع من قبل المتشددين، وبخاصة "الحرس الثوري". وجاء تفجير زاهدان عاملاً لتغليب وجهة نظر المحافظين.
اختار ظريف اللحظة المناسبة للخروج من المشهد. كان ظريف قد حصل على رصيد شعبي إيراني، مثّل للإيرانيين كرجل صانع للإنجازات، خصوصاً في أدائه للمفاوضات النووية. وهو الذي أصبح مقبولاً غربياً ومحبوباً إيرانياً. الآن، لم يعد قادراً على التحمّل بعد حشره بالكثير من المواقف والخيارات الديبلوماسية، من قبل تيار المحافظين أو من قبل الحرس الثوري الإيراني. وهذا ما سينعكس سلباً على وضعه وخياراته المستقبلية. وجد ظريف الظرف سانحاً للخروج من المشهد في لحظة زيارة الأسد. فهو ما كان يريد أن يكون خروجه مسبباً لإشكال مع الطرف الأقوى في النظام الإيراني، فوجد تبريراً للاستقالة في حجة عدم التنسيق معه لزيارة الأسد.
المدرسة الخشنة
من الواضح أن الوضع الإيراني يتجه نحو مرحلة أكثر صعوبة، ووضعت ظريف في خانة متلقي التعليمات من قبل الحرس الثوري الإيراني، ما يعني القضاء على الحيز الخاص، الذي كان يتمتع به طوال المرحلة السابقة، التي مثّلت انفتاحاً إيرانياً على الغرب. وكان هو عرّاب هذا الانفتاح. وبالتالي، يفضّل الخروج في هذه المرحلة التصعيدية، بانتظار لحظة التسوية الكبرى، والتي قد تعيده إلى المشهد بصورة أخرى، ربما كرئيس للجمهورية.
بلا شك أن الخطوة تعكس احتمالات تنامي التصعيد في المنطقة. فأي وزير للخارجية الإيرانية سيخلف ظريف، سيكون من المدرسة الخشنة وليس الناعمة. ومن غير الوارد في هذه الظروف المجيء بوزير خارجية مشابه لظريف، لا بل سيكون من بطانة الملتزمين بالتوجيهات المتشددة، وستكون حركته مقيدة، لأن المرحلة للمواجهة وليس للديبلوماسية. وبلا شك أن استقالة ظريف، ستضعف الرئيس حسن روحاني، الذي كان لديه همّاً دائماً، بالتدليل على الإشارات الإيجابية التي يحصّلها من الغرب. وبما أن ذلك لم يتحقق في الفترة الأخيرة، فسيصاب روحاني بالضعف أو سيذهب أكثر تجاه المحافظين.
التحول الكبير
كل المعطيات تؤشر إلى أن ليس هناك تحركات أميركية للذهاب نحو مواجهة عسكرية مباشرة مع إيران. ولكن الاحتمالات الأخرى تبقى لما يجري في المنطقة، خصوصاً بين حزب الله وإسرائيل. بلا شك، أن الطرفين لا يرغبان التورط في حرب، لأن أكلافها على كليهما ستكون أكبر من فوائدها السياسية. لكن أيضاً في المقابل، فإن القبضة الحديدية الإيرانية ستظهر في سوريا والعراق وكل المنطقة. حالياً، سيكون لبنان مدار تصعيد سياسي، وليس عسكري. ولكن الإسرائيليين يرفعون شروطاً أساسية، برفض امتلاك حزب الله وتخزينه للصواريخ الدقيقة. استمرار التصعيد (وفي ضوء التصنيف البريطاني الجديد للحزب)، قد يوفر للإسرائيليين فرصة لتوجيه ضربات لمخازن صواريخ الحزب في الجنوب. لكنه احتمال مؤجل إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية.
عملياً، أي تصعيد ستكون غايته الوصول إلى تسوية سياسية. في الظرف الراهن، لا يمكن لهذه التسويات إلا أن تنجز بالمعارك والمواجهات السياسية أو غير السياسية. وهنا، لا يمكن تجاهل التطورات في إيران، مع تغليب وجهة نظر المتشددين والمحافظين، كردّ على كل الكلام حول انسحابها من سوريا، أو خلافها مع موسكو.. لتشكل استقالة ظريف ربطاً بزيارة الأسد، تحولا كبيراً في المشهد، يؤشر إلى أن إيران استقبلت الأسد للدلالة على عدم سوء العلاقة معه، والتأكيد بأن طهران باقية في سوريا، وموسكو تستثمر في هذا المشهد، لابتزاز الأميركيين والأتراك معاً، وللرد على مؤتمر وارسو، الذي لم يخرج بتوجه واضح حول كيفية مواجهة إيران.