زيارة مرتقبة للرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العراق مقرر لها أن تبدأ في الحادي عشر من مارس المقبل بعد سلسلة تحضيرات لوفود دبلوماسية ومصرفية وتجارية وأمنية، كان أهمها ما قام به وزير الخارجية المستقيل محمد جواد ظريف من حملة علاقات ولقاءات أثناء زيارته التي انتهت بتلك العبارة من أرض مدينة كربلاء “سيمضون ونبقى” بما فيها من دلالات رمزية تتجاوز الوجود الأميركي إلى التوغل التاريخي في أرض العراق.
آخر الواصلين إلى بغداد هو نائب وزير الخارجية عباس عراقجي الذي التقى رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي في إطار التهيئة للتوقيع على مذكرة تفاهم بين العراق وإيران وُصفت بأنها لتحقيق المصالح المشتركة، ولعل ما ورد في بيان المكتب الإعلامي لمجلس الوزراء حول القضايا العالقة وفي مقدمتها حفظ حقوق العراق بمياهه الإقليمية يؤكد إعادة رسم السياسات المائية بما يخص تدفق الأنهار في مجاريها الطبيعية إلى داخل العراق، بعد أن حولت إيران مسارات مصباتها إلى داخل أراضيها، ويفترض أن الحقوق تتناول أيضا الأزمة في شط العرب وانجراف خط التالوك باتجاه الأراضي العراقية وهذا يضمن لإيران مساحات إضافية خارج حدودها.
المعطيات تشير إلى تفاهمات، وإن كانت متأخرة، حول الأضرار التي تعرضت لها الزراعة في جنوب العراق بما تسببت فيه من هجرة شبه جماعية للفلاحين، إضافة إلى زيادة نسب التلوث والتملح في المياه تحديدا في البصرة وما نتج عنها من احتجاجات أعقبت إصابة الآلاف بالتسمم.
لكن لماذا في هذا التوقيت تبدو المواقف أكثر مرونة وباتجاهات وغايات مختلفة رغم أن النظام الإيراني لم يكترث بالآثار السلبية لسياساته على العراقيين، وقضية المياه من بينها وفي مقدمتها لصلتها اليومية بحياة المواطنين. كما أن سياساته عرّضت الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران إلى الإحراج لأنها استترت بالصمت إزاء ما تعرضت له المدن في الجنوب من مصائب وكوارث شح المياه وتصريف مياه البزل الإيرانية.
إيران تسعى بعد العقوبات الأميركية إلى ضمان مصالحها بتواجدها السياسي والاقتصادي في العراق بتدعيم منظومة العلاقات في إطارها الشكلي بين الدول، وذلك يحصنها من التساؤلات عن خرق العقوبات بما يسهل أيضا مهمة الحكومة في العراق وما يلتحق بها من قوى إيرانية فاعلة في السلطة للإفلات من التدقيق الأميركي لمدى استجابة العراق لمصالحه، بعيدا عن ضغوط القرار الإيراني المعروف بأنه مُلزِم، وبطواعية، لحكام عراق ما بعد الاحتلال.
الاتفاق على ضمان تدفق الأنهار من إيران يشبه في جوهره الاستثمار في القرش الأبيض بانتظار اليوم الأسود، وملالي إيران وطيلة السنوات الماضية استثمروا في “العطش” العراقي حتى جاء اليوم الذي أصبحت فيه إعادة المياه إلى أحواض أنهارها الطبيعية موضع مساومة ومقابل أثمان سيدفعها العراق بإرادة نظامه السياسي الخاضع لولاية الفقيه من اقتصاده وسيادته وصحة مواطنيه واستقرارهم.
حجب المياه وإطلاقها لا يختلف كثيرا عن حجب الإرهاب أو إطلاقه بما فيه تنظيم داعش، فالتوقيتات تضع العراقيين، كما فعلت إيران غالبا، في موضع الاختيار بين الموت أو القبول بالمرض على طريقة صناعة الميليشيات بالفتوى المذهبية، ثم صياغة قانون وتمريره إجباريا في البرلمان بصلاحيات وميزانية مالية وتسليح وبرعاية حكومية وماكنة إعلامية أدت إلى المفاضلة بين داعش كتنظيم إرهابي، وبين الحشد “الشعبي” كتنظيم مُعلن بولائه لولاية الفقيه.
السياسيون والإعلاميون في العراق من الموالين لمشروع الملالي وعلى غير عادتهم في السنوات التي سبقت احتلال داعش للموصل والأنبار وصلاح الدين، يحاولون التخفيف من خطر العمليات والاغتيالات والاختطافات في جبال مخمور أو تلال حمرين أو جزيرة الرمادي الواسعة، رغم أن الميليشيات وقياداتها كانت تروج لمخاطر عودة التنظيم الإرهابي بعد إعلان “التحرير” لأن الانتخابات النيابية كانت على الأبواب وكابوس المأساة كان يراد له خدمة الصناديق التي شيّعت الميليشيات إلى مقاعد مجلس النواب.
الإعلام الإيراني في العراق يحاول ضغط الخسائر باللامبالاة أو العبور على الأرقام الفعلية ومخاطر الإرهاب، لأن الأمر يتعلق هذه المرة بداعش من زاوية الصراع الأميركي الإيراني في العراق باعتباره الشماعة والمبرر لبقاء القوات الأميركية، وذلك مصدر قلق للقوى الخاضعة لإيران بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب ترصين قاعدة عين الأسد لمراقبة إيران وخنق تمددها، وبشواهد بناء مكثف لمدارج سلاح الجو الأميركي في إقليم كردستان الذي يبدو، هو الآخر، في حيرة من علاقاته مع إيران بسبب ولاء حكومة المركز لولاية الفقيه، وما ستسفر عنه زيارة روحاني لبغداد، وبدا ذلك واضحا في قرار الإقليم إيقاف تدفق النفط إلى إيران، ثم إلغاء القرار بعد عشرة أيام من التصديق عليه.
ما يجري في إيران يفسر لنا أهمية العراق بالنسبة لولاية المرشد في هذه المرحلة، فحرق صور الخميني والمرشد خامنئي أصبح من يوميات الاحتجاجات في المدن الإيرانية الكبرى لما تسبب فيه النظام خلال “أربعينية” حكمه من قمع وتعذيب وإعدام وإرهاب للشعوب الإيرانية التي باتت تطلق على اللحوم الحمراء والدجاج تسمية السلع الفاخرة كناية عن الجوع والفقر وارتفاع نسب البطالة وتدهور قيمة العملة والتضخم، ما دعا ممثل خامنئي في طهران المدعو ملا صديقي إلى شن هجوم صريح على هؤلاء المطالبين بالإصلاحات بديلا عن تبذير الأموال على الحرس الثوري وأذرعه الميليشياوية في الخارج بالقول “نحن لم نقدم الدم من أجل البطون” بكل ما تعنيه هذه العبارة من تسخير النظام الإيراني لكل موارده وإمكاناته من أجل أهداف صادرات مشروعه الإرهابي.
بعد تجربة سنوات الاحتلال لم يعد هناك أدنى شك في أن القوى الإيرانية في العراق تستاء من أي تقارب عربي مع العراق ولو ضمن التوازنات الإقليمية، إلا إذا كان في ذلك التقارب ما يدفع العراق إلى إجراء المزيد من المقايضات مع إيران قياسا لحجم علاقاته مع دول محيطه العربي.
بمعنى أن التقارب العربي مع العراق أعطى ثماره بما نراه من تطبيقات إيرانية على أرض الواقع. وهي تطبيقات تؤكد أن إيران في موضع الشك من دورها في العراق وباتت تلعب دور العربة الأخيرة والمتأخرة عن الركب محاولة اللحاق ببقايا مشروعها بما تمليه تجاذبات سياساتها الإقليمية وبرسائل متناثرة لم تعد تنطلي على أحد رغم ما تحمله من تنازلات في الشكل والمضمون، خاصة بعد خطابات المرشد وما ورد فيها من نقد حاد تجاه سياسة الرئيس حسن روحاني واعترافاته المستمرة بسيطرة الحرس الثوري على الاقتصاد في تبرير إخفاق الحكومة في ردم الفجوة بين متطلبات الإيرانيين ونظام حكم ولاية خامنئي، وإخفاقها كذلك في السياسة الدولية وهو ما يبرر استقالة وزير الخارجية محمد جواد ظريف.
زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني المتوقعة إلى العراق يبدو أنها تتطلب المبالغة في الاستعدادات لهدف التهيئة للتوقيع على مذكرة تفاهم شاملة ستحمل في طياتها إعادة الكثير من مفاهيم تدفق مجاري الأنهار، لكن من العراق إلى النظام في إيران.