يمثل الراعي في مجتمعه الهرم الأعلى الذي يقع على عاتقه رعاية أفراد المجتمع على اختلاف أصنافهم . ولا يخفى عليك أن كل فردٍ في المجتمع له طبيعته وهواه وثقافته التي تختلف عن الآخر كلاً أو بعضاً أو تلتقي معه كذلك .
وهؤلاء جميعاً شئنا أم أبينا يعيشون في هذه الحياة في مجتمعات متعددة يؤثرون أحياناً ويتأثرون أخرى .
ومن أجل أن يتمكن الراعي من توفير الحياة الأفضل للمجتمع المسؤول عنه لا بد له من الالتفات الى هذا التنوع ليتمكن من تحقيق السلامة العامة .
وعندما نلجأ الى اعتماد تجربة الامام علي (ع) في قيادة المجتمع نجده قد استوعب أفراده على اختلاف أصنافهم وطبقاتهم .
وحتى نستفيد من تلك التجربة لا بد من معرفة هذه الأصناف والطبقات ولو بشكل إجمالي .
تقسيم أفراد المجتمع :
يُقسم الإمام علي (ع) أفراد المجتمع الى ثلاثة أصناف هي :
عالم رباني – متعلم على سبيل نجاة – همج رعاع .
فهذا التصنيف أو التقسيم يقع وفق الأسس العامة التي عليها الناس ، ومن جهة ثانية يُقسم الإمام علي (ع) الناس الى صنفين باعتبار التعاطي والتعامل معهم وهما : الأخ في الدين والنظير في الخلق ، فيقول لمالك الأشتر : الناس صنفان أم أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق .
وهذا التقسيم يحتاجه الراعي عندما يكون في موقع الممارسة العملية وتطبيق نظام الحقوق والواجبات .
وفي مقام الثواب والعقاب يُقسم الإمام علي (ع) الناس الى صنفين أيضاً هما : المحسن والمسيء. فيقول ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم وتشجيعاً لأهل الإساءة على إساءتهم .وهذا التقسيم يحتاجه الراعي في مقام الرقابة والمحاسبة .
ويقسم الإمام علي (ع) الناس الى أربعة أقسام باعتبار العمل وقيام الحياة في الاستقرار والانتظام وهذه الأقسام على الشكل التالي :
عالم مستعمل علمه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بمعروفه ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه .فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل ان يتعلم ، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه.
وهذا التقسيم يستفيد منه الراعي في عملية التكامل بين العالم والجاهل والغني والفقير فهذه مجموعة أمثلة من أصناف الناس ، يتوزع أفراد المجتمع عليها . فعلى الراعي أن يدرك ذلك ليتمكن من فهم التركيبة التي يتألف منها المجتمع البشري وينهض من خلال فهمه الى تطبيق أنظمة الأمن والاستقرار ويحفظ كل فردٍ بعد معرفته بحاله وصفاته .
التوسعة في المطلب :
إذا أردنا أن نزداد معرفة بأفراد المجتمع واصنافه وطبقاته نجد من خلال الاستقراء والتتبع ان أفراد المجتمع البشري يختلفون في أوصافهم العلمية والسلوكية والطبعية وغيرها . بل يمكن القول أن الإختلاف موجود بين أبناء الصنف الواحد .
لذلك فإن التركيبة التي يتألف منها المجتمع تحتاج الى عناية كبيرة تصل الى حد الإهتمام بكل فردٍ على حدى من خلال الأنظمة الصالحة والمبادرات الحسنة والطرق والأدوات النظامية التي من شأنها معالجة ما يعاني منه كل فردٍ أو ما يحتاجه لإشباع طموحه وتحقيق آماله .
وهنا نحاول ضرب بعض الأمثلة على أصنافٍ وعيناتٍ من المجتمع باعتبارات مختلفة كلها مستفادة من التقسيم السابق الذي ذكرناه :
أولاً : باعتبار العلم والجهل يواجه الراعي هذه المجموعات من أفراد مجتمعه
المثقفون _ المتخصصون - طلاب المعارف - أصحاب المواهب –الجاهلون المقصرون - الجاهلون القاصرون .
والجهل في الحالين ينقسم الى بسيطٍ ومركب .
ثانياً : باعتبار الوضع الاجتماعي يواجه الراعي هذه المجموعات من أفراد مجتمعه .
- الفقراء – الأيتام – المساكين - العجزة - أبناء السبيل - العاطلون عن العمل – المعوقون وكل ما يندرج تحت عنوان العوز والحاجة.
ثالثا : باعتبار الكيان النظامي الذي تتكون منه الدولة يواجه الراعي بالإضافة الى بعض العناوين السابقة من يقع على عاتقه مباشرة الإدارة والتنظيم وتطبيق القوانين . وفي هذا المجال نأخذ هذه الأمثلة :
- الرئاسات العليا مثل الوزارة ورئاسة الهيئات الإدارية
- القوى العسكرية والأمنية .
- قضاة العدل.
– قطاع الخدمات والتنمية
– العمال والكادحون .
وبعد هذه الأمثلة أصبح واضحاً لديك أن المجتمع يتركب من أصنافٍ وطبقات عديدة ومختلفة وهي جميعاً تقع تحت وصاية الراعي الأكبر المسؤول عن تدبير شؤونها بحكمة عالية ليتمكن من تحقيق الأمن والاستقرار والعدالة والمساواة والسلامة العامة لكل فردٍ من أفراد المجتمع .
وهذا الأمر يتطلب الجهد الكبير من الراعي الحكيم الذي يمتلك الصفات والمؤهلات التي تمكنه من القيام بواجبه تجاه كل فردٍ من غير استثناء .
وهنا ننتقل للحديث عن حاجة الإنسان للقانون والنظام الذي يساهم في الصلاح والإصلاح ونبدأ حديثنا بهذا التمهيد .
لابد من معرفة فائدة القوانين والأنظمة وأهمية تطبيقها وخطورة عدم الأخذ بها لا سيما التشريع الإلهي الذي وجد لينظم ويطور حياة الإنسان ويحفظه من الانحراف والضياع.
ولأجل المزيد من إلقاء الضوء على هذا الموضوع نعرض النقاط التالية ثم نعالجها تدريجياً .
النقطة الأولى : خلق الله الإنسان وجعله على هذه الأرض وزينه بنعمة العقل التي ساد من خلالها على كل المخلوقات .
النقطة الثانية : قد تتغلب الغريزة على القوة العقلية التي يمتلكها الإنسان نتيجة عدم استجابته للأوامر والنواهي الصادرة عن العقل وعندئذٍ يجنح نحو ارتكاب الأخطاء وسلوك الطرق الانحرافية .
النقطة الثالثة : يترتب على انحراف الإنسان أضراراً كثيرة فمنها الضرر الشخصي ومنها الضرر العام كما يحصل في حال الفتنة والقتل وما شابه ذلك .
النقطة الرابعة : رغم القوة التي يتمتع بها العقل في معرفة المصالح والمفاسد وإصدار الأوامر المنسجمة مع هذه المعرفة يبقى هذا العقل في أمورٍ كثيرة عاجزاً عن إدراك الحقائق التي تجلب له نفعاً وتدفع عنه ضراً .
معالجة الموضوع :
تأمل جيداً في النقطة الأولى فإنك ستجد أن الإنسان ينعم بنعمتين أساسيتين هما : نعمة الوجود ، ونعمة العلم الحاصلة بواسطة العقل وهو خليفة الله تعالى في الأرض وله فيها كل ما يحتاج إليه من أسباب الحياة وكونه مستخلفاً من قبل خالقه فلا بد من نظام وقانون يحدد له دوره ليكون صالحاً بملء إرادته واختياره.
فإذاً الحاجة الى القانون والنظام في المرتبة الأولى ليقوم الإنسان بدوره الذي استخلف من أجله.
وإذا تأملت في النقطة الثانية فإنك ستجد أن الإنسان مركب من عقل وغريزة . والغريزة قد تتغلب على العقل أحياناً وذلك عندما لا يستجيب هذا الإنسان لأوامر ونواهي عقله مما يدفعه الى الانحراف وفق شهواته من غير ان يعير اهتماماً للنتائج .
ثم إن هذا الانحراف قد يصل الى مراتب خطيرة مثل إزهاق النفس . ومن أجل إصلاح هكذا حالات لا بد من قانون يتكفل بوضع العلاج المناسب .
وإذا تأملت في النقطة الثالثة فإنك ستجد أن أفعال المنحرفين لها تأثير على المجتمع كما يحصل في حال الفتنة والقتل وما شابه ذلك ..
ومن أجل حفظ السلامة العامة ومنع الفوضى لا بد من قانونٍ يأمن المجتمع في ظله من مثل هكذا انحرافات .
واذا تأملت في النقطة الرابعة فإنك ستجد ان العقل البشري رغم قوته في معرفة المصالح والمفاسد إلا انه يبقى عاجزاً عن إدراك الكثير من الحقائق وبسبب هذا العجز نجد أنفسنا بحاجة الى قانون يرشدنا الى الطرق الصحيحة التي تضمن سلامة الفرد والمجتمع .
وبناء على ما تقدم نعرف أن وجود نظام وقانون ينظم حياة الإنسان ويحدد دوره ويرشده الى الطريق الصحيح ضرورة لا بد منها .
- تطبيق النظام :
لا يكفي أن تؤمن بأن الإنسان لا بد له من قانون ينظم حياته وأن القانون الأصلح هو الصادر عن الله عز وجل فهذا الإيمان ليس له تأثير إلا إذا جسدت ما تؤمن به عملياً . والمسؤول عن رعاية تطبيق النظام هو الراعي الذي يمكنه ان يحاسب ويعاقب المخطئ عند إخلاله بما يضر بالمصلحة العامة .
وأما على مستوى انحراف الأشخاص بما يضر بالمصلحة الشخصية مثل عدم الالتزام ببعض العبادات فإن الراعي هنا يلعب دوراً توجيهياً عُني به قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
_ الخلاصة :
القانون والنظام حاجة ماسة للإنسان وهو بحسب تركيبته عاجز عن الإلمام بكل ما ينفعه او يضره ومن باب اللطف الإلهي بالإنسان شرع الله له القوانين والأحكام ووجهه الى حب الخير ونبذ الشر وهو مسؤول كفرد عن الطاعة لحفظ حياته من الخلل أو الهلاك .
وبحكم العقل فهو يستحق العقاب عند المخالفة ، واستحقاقه العقاب له مرحلتان : الأولى في الدنيا ، والثانية في الآخرة . أما استحقاقه العقاب في الدنيا كما لو فعل ما يضر بالمصلحة العامة مثل السرقة ، والزنا ، والقتل والظلم … ففي مثل هذه الحالات يحاكم في الدنيا من قبل الحاكم الذي يرعى تطبيق النظام العام فضلاً عن استحقاقه العقاب في الآخرة . وفي الحالة الثانية ان يفعل ما يضر به شخصياً مثل تركه العبادات ففي مثل هذه الأحوال التي لا تهدد المجتمع العام عادةً فإن المسؤول الأول والأخير الذي يحق له المعاقبة عليها هو الله عز وجل الذي توعد المخطئين بالعقاب بعد الموت وأعطاهم فرصة العودة عن الخطأ والتوبة في الدنيا .
نعم الراعي هنا يلعب دور التوجيه والإرشاد ضمن دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا القانون أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له اصول ٌ يجب إعتمادها ومراعاة قواعدها حتى لا نعالج الخطأ بالخطأ ولأجل هذا نعقد لهذا الموضوع فصلاً خاصاً .