مقدما يرجى من القارئ أن يصبر على هذه الحسابات الرقمية المملة ليصل إلى زبدة الموضوع. إن للتفاؤل، كما أن للتشاؤم، أسبابا موضوعية لا تقبل الشك ولا الجدال. وفي ما يخص العراق، حاضرا ومستقبلا، فإن الحقائق المعاشة في واقعه الحالي توحي بأن موعد التفاؤل لم يحن بعد. ولنبدأ قراءة الأحداث بالتسلسل الزمني المعروف.
فقبل الانتخابات الأخيرة التي جاءت بالبرلمان الحالي، واستنادا إلى بيان المفوضية العامة العراقية للانتخابات، تبين أن عدد الذين سجلوا أسماءهم للتصويت كان ثمانية ملايين فقط من اثنين وثلاثين مليونا، أي ربع سكان العراق. ويومها تسربت من داخل المفوضية معلومة تقول إن ثلث هذه الملايين الثمانية لم يتمكن من الوصول إلى صناديق الاقتراع، بسبب حواجز وموانع وعوائق اعتاد العراقيون على مصادفتها في أيام التصويت في كل انتخابات.
ومعنى هذا أن عدد الواصلين إلى الصناديق حوالي خمسة ملايين وثلاثمئة وأربعة آلاف مقترع، هذا إذا سلمنا بصدق معلومات المفوضية ودقتها وحيادها.
والمعروف والثابت في قناعة جميع العراقيين أن ما يقرب من نصف الذين أدلوا بأصواتهم، من هذه الملايين الخمسة والثلاثمئة ألف، أي 2.650.000 هم أعضاء متطوعون في الأحزاب والميليشيات التي تملك السلطة والمال والسلاح في العراق الجديد، منذ 2003 وحتى اليوم، وهي حزب الدعوة، بحمائمه وصقوره، ومنظمة بدر، والتيار الصدري، ومجلس الحكيم، وورثة جلال الطالباني، وأسرة مسعود البارزاني، وجماعة إياد علاوي، وإقطاعيات الأخوين نجيفي وصالح المطلق وخميس الخنجر.
التحقيقات التي أجرتها وزارة العدل الأميركية أشارت إلى أن نشاطات مشبوهة قامت بها “آفاق” نيابة عن “ساليبورت”، حيث وعدت مسؤولين في الحكومة العراقية بتقديم أموال لهم مقابل قيامهم بتسجيل "ساليبورت" كمتعاقد
أما نصف النصف الباقي من المقترعين فهم إما مَسوقون بفتوى مرجعية دينية، أو بقرار شيخ قبيلة، أو بإرادة مقاول يمسك عليهم رزقهم وبيده أمرهم، فيمدهم بالملح الزاد، أو يقبض عنهم المؤونة والتمويل.
وبالحساب العادل المضبوط يكون عدد المقترعين المستقلين غير المقودين من أحد الشطار الكبار مليونا وثلاثمئة وخمسة وعشرين ألفا، فقط لا غير.
وهذا يعني أن الذين يقررون مصير وطن، هم أنفسُهم الشطار الكبار الذين تسلطوا عليه منذ العام 2003، وجعلوه في أسوأ حالاته، وأغرقوه بالرشوة والعنف والإرهاب والخطف والاغتيال، لحماية مواقعهم من كل سوء. بمعنى آخر، إن الفساد باق على حاله. وكلُ حديث يطنطن به أيُ مسؤول في المنطقة الخضراء، عن محاربة الفساد ليس أكثر من حديث العاجز العائم في نهر من الأحلام.
واستنادا إلى ما يتسرب من مجالس بعض كبار حكام المنطقة الخضراء فإنهم حين يختلون بخاصتهم، وخلف الأبواب المغلقة، يقرون بعجزهم الكامل عن التحرش بأحد أصحاب الرؤوس الكبيرة التي لن تعتدل أمور الوطن، ويرددون مقولة “إن الفاسدين أقوى منا جميعا”، ويعترفون بأن مشكلات الوطن وأهله لن تحل إلا حين تبدأ الدولة سيرها على الصراط المستقيم، وهذا لن يتحقق إلا إذا تمَّ سوْق أكبر رأس من رؤوس المتهمين الكبار إلى ساحة العدالة ليقول القضاء العادل المستقل كلمته الفصل في ما ينسب إليه من مخالفات واختلاسات أصبحت مكشوفة ومفضوحة، وصار التستر عليها أكثر من مستحيل.
مناسبة هذا المقال ما كشفت عنه صحيفة ديلي بيست الأميركية حول التحقيقات التي تجريها وزارة العدل الأميركية مع شركة “ساليبورت غلوبال سيرفيسز” حول دورها في رشوة مسؤولين عراقيين، منهم نوري المالكي ومسؤولون كبار آخرون. ففي 2014 حصلت شركة ساليبورت على عقد من القوة الجوية لتوفير خدمات لقاعدة “بلد” الجوية شمال بغداد، تتولى تنفيذه، بعقد باطني، شركة “آفاق”.
والمعروف والثابت في قناعة جميع العراقيين أن ما يقرب من نصف الذين أدلوا بأصواتهم، من هذه الملايين الخمسة والثلاثمئة ألف، أي 2.650.000 هم أعضاء متطوعون في الأحزاب والميليشيات التي تملك السلطة والمال والسلاح في العراق الجديد
وقالت الصحيفة إن التحقيقات التي أجرتها وزارة العدل الأميركية أشارت إلى أن نشاطات مشبوهة قامت بها “آفاق” نيابة عن “ساليبورت”، حيث وعدت مسؤولين في الحكومة العراقية بتقديم أموال لهم مقابل قيامهم بتسجيل “ساليبورت” كمتعاقد. والمهم في الأمر أن شركة “آفاق” تخضع لهيمنة عائلة المالكي، بدءا بنوري ونجله أحمد المالكي وصولا إلى صهره ياسر صخيل المالكي.
وكان تقرير آخر نشرته شبكة NBR الأميركية في فترة رئاسة نوري المالكي الثانية للوزراء أكدت فيه أن المحققين الأميركيين أصبحوا على قناعة كاملة بأن المالكي عائق أمام هيئة النزاهة التي من مهامها ملاحقة الفساد.
ومنذ العام 2014، يوم طرد المالكي من الرئاسة وتنصيب حيدر العبادي رئيسا وحتى اليوم لم يجرؤ أحدٌ على التحرك للتأكد من هذه الاتهامات الجدية الخطيرة التي تمس الدولة وهيبتها وسمعتها وعلاقاتها بدول العالم الأخرى، لا في رئاسة الجمهورية ولا رئاسة الوزراء ولا البرلمان ولا القضاء.
وهنا نصل إلى خلاصة. فما دام النظام الإيراني الذي يحكم العراق بقوة السلاح يوفر الغطاء والحماية لنوري المالكي ولغيره من كبار المتهمين بالفساد فلن تقوم للعدل قائمة في العراق، ولن يتحقق العدل في العراق ما دامت الأصابع الإيرانية تعمل مع سبق الإصرار والترصد على تقوية مراكز الفاسدين، وتمنع يد العدالة من المساس بأحدهم، فلن يُصدِّق العراقيون أحدا يَعدُ بمحاربة الفساد واجتثاثه، من عادل عبدالمهدي ونزولا حتى أصغر نائب أو وزير.